أرواح الأصدقاء
قبل امتحانات الثانوية العامة بأسبوع، اتصلت صديقتي بي عبر الهاتف المنزلي. كانت تحدثني وتضحك: "أنا حاسة إني ما بانجحش في الثانوية ولا باخذ شهادتها خالص"، فسألتها: "يعني مهيأة نفسك تعيديها؟". ردّت بحماسة: "لا والله ما أريد أدخل مدرسة". وقد صدقت صديقتي، فبعد ساعات قليلة من حوارنا هذا اتصلت بي صديقة أخرى لتخبرني بأنّ "آمنة" ماتت!
كانت صديقتي الأخرى تبلغني بالخبر منتحبة، بينما كنت أحاول طمأنتها وتكذيب الخبر، بأنّني كنت أتحدث إلى "آمنة" قبل ساعات، ولا تزال ضحكتها في دمي، صوتها في روحي، فما الذي سيحدث لفتاة في الثامنة عشرة من عمرها لتموت فجأة؟!
تذكرت أيضاً أنها قالت لي: "أنا وأبي كارهين بيتنا ونفسنا ننقل مكان ثاني". وقد اصطحبت والدها معها إلى العالم الآخر، إذ لم تمت آمنة وحدها، بل ماتا معاً، أو بالأدق قُتِلا معاً!
لقد أكملنا ضحكنا (أنا وآمنة) قبل ساعات، لتعود كلّ منا إلى استذكار دروسها، وكم كان مؤثراً أنها اختتمت حياتها بمذاكرة السيرة النبوية، فرحلت بروح مرتوية بالنبي الكريم، استعداداً للقائه.
وكانت المرة الأولى التي أُفجع فيها بموت صديقة مقرّبة منّي، وزاد الأمر صعوبة أنه بعد أسبوع من مقتلها، بدأت امتحانات الثانوية العامة. وتمعناً في سوء الحظ، كان مقعدي هو الأول المقابل لباب لجنة الامتحان، وكان أمامي كشف أسماء الممتحنات في تلك اللجنة، وكانت آمنة إحداهن، وكم كان قاتلاً أن أرى كرسيها فارغاً، وكم كان موجعاً حين تأتي المشرفات ينادين بالأسماء، وينادين باسمها، ويتعجبن من تغيّبها، وأضطر في كلّ يوم إلى أن أخبرهن بأنّها ماتت.
ما زالت "آمنة" تُقتل كلّ يوم، مع كلّ فتاة تُقتل وسط بيتها لمجرّد أنها ضعيفة، لمجرّد أنها تعيش في بلد لا يُحسن التعامل مع المرضى النفسيين والمختلين عقلياً
كتبت ما يفوق مائة بيت من الشعر في رثائها، فقد كنت حينها أكتب الشعر، أو أظن نفسي كذلك، لكن كل ذلك لم يُنسِني ألمي، ولم يمحُ صوتها وضحكتها من وجداني مرور عشرين عاماً على دفنها. لقد حضرت معنا "آمنة" كلّ طقوس أفراحنا ونجاحنا وفشلنا، إنجازاتنا وخيباتنا، نكاد نراها تضحك علينا كثيراً لأنّنا نعيش تفاصيل الحياة بجدية، وهي التي كانت ساخرة منها، لا يرفّ لها جفن من الهم، وحينما شعرت بالملل من الحياة اصطحبت أباها وغادرا الحياة معاً.
ما زال يشغلني كثيراً شعورها وهي ترى أخاها الأصغر يتجه نحوها بالبندقية (فقد كان بيتهم ككثير من بيوت اليمنيين عامراً بالأسلحة والمرضى النفسيين)، ثم يجري لقتل والدها. قيل لي إنها كانت تحاول الوصول إلى أبيها لنجدته وهي تنزف آخر أنفاسها، وإنّ كفها المخضبّة بالدم كانت مطبوعة على حائط منزلهم، فقد كانت تتكئ عليه لتهرب إلى غرفة أبيها، ولفظت معه آخر أنفاسها وهي خائفة، وما زالت بصماتها المدماة مختومة في أعماقي، يتجدّد ألمها كلّما شاع خبر موت أو مقتل صديق آخر.
ما زالت "آمنة" تُقتل كلّ يوم، مع كلّ فتاة تُقتل وسط بيتها لمجرّد أنها ضعيفة، لمجرّد أنها تعيش في بلد لا يُحسن التعامل مع المرضى النفسيين والمختلين عقلياً والمنحطين أخلاقياً والمنفلتين دينياً. رحلت آمنة، وما زالت فجيعتها تتجدّد، كلما رأيت كتابها الذي أعارتني إياه، ولم تنتظر حتى أعيده إليها، وكلّما تذكرت نكتة تروقها فتشاركني دموعي بدلاً من ضحكتها وتعليقاتها.. تتجدّد مع كلّ فتاة عاشت بحلم وماتت مغدورة.
من يومها، لم يفارق أحد الحياة، إلا وشغل مساحة أكبر من تفكيري، جزءٌ من روحي يموت معه، وجزء منه يبقى إلى جواري، فموت كلّ صديق يسحب منا جزءاً من أرواحنا، ويترك معنا جزءاً من روحه يشاركنا تفاصيلنا، ننصت إلى ضحكه الذي يبرق من مكان بعيد، وخوفه علينا يتسلّل إلينا في بعض أحلامنا وكثير من يقظتنا.