أخيراً.. محمد صلاح في غزّة!

05 يونيو 2024
+ الخط -

في كلِّ فرصةٍ لأن يكون الإنسانُ إنسانًا، ويثبت ببساطة انتماءه لجلده ولحمه وملامحه وفطرته، يتنكّر أحدهم، مختبئًا خلف نظارته الشمسية، وقبعة رأسه طويلة اللسان، محاولًا ممارسة هوايته المفضّلة، التي أتقنها من كتابٍ لا يملّ من قراءته، "فن اللامبالاة"، مستعرضًا قدرة منقطعة النظير على البرودِ في معاملةِ الجماهير، سواء كانت تلك الجماهير في بلده المكلوم حزنًا على جيرانه وأهله، أو كانت في مدينةٍ يتعرّض أهلها لأبشعِ إبادةٍ جماعية في العصر الحديث، بينما ربّما لا يستطيع التعامل بالبرودِ نفسه مع انتقادٍ واحد، ولو لشكلِ حذائه.

في أحد مقاطع البثِّ المصوّرة من قلب جراح غزّة النازفة لمحتُه، كان اسمه متربعًا خلف ظهر أبٍ فقدَ ابنته للتوّ، يسجد فوق جسمها المسجّى بالدماء، ربّما في مشهدٍ آخر كنت ستنخدع، أنّ ذلك اللاعب المعروف، محمد صلاح، ساجدًا فوق العشب الأخضر، لكن لا عشب أخضر بقي في غزّة، ولا ملعب، ولا شيء إلا السجود، وذلك التيشيرت البالي، الذي ربّما لم يجد صاحبه بدًّا من ارتدائه، لأنّه لا يجد غيره، بينما يلعن الاسم الذي يحمله خلف ظهره، كأنّه هم ثقيل، لا يأمن النوم به، ولا القيام، خشيةَ أن يطعنه في ظهره، بلسانه الأخرس، وشعوره المتبلّد، وسكوته الطويل.

ربّما لو كان التيشيرت للاعبٍ آخر، لا يحمل الهُويّة نفسها، ولا العرق ولا اللون ولا اللسان، كان سيشارك الصورة متألمًا لمصاب الأب ولنزفِ الفتاة الشهيدة، ربّما كان سيتحرّك شيء في داخله يدفعه للصراخ في وجهِ العالم، ربّما كان ليحرز هدفًا يهديه إلى غزّة كلّها، وذلك الأب تحديدًا، ربّما كان ليشارك الصورة ولو من دون كلمةٍ واحدة، ربّما كان ليلعن نفسه حين ابتلع لسانه طوال تلك المدّة، ربما كان ليبكي دمًا بدلًا من الدمعِ من شعورِ الخزي والخذلان والخيانة، ربّما كان سيعلن توبته طالبًا السماح، ربّما كان سيستغل موجةَ التعاطف العالميّ رغم أنف اللوبي الصهيوني لينتصر لتلك اللحظة المؤثرة، ربّما كان ليتخفّى وسط أفواج اللاعبين المتضامنين مع غزّة، وهو أولى وأقرب منهم إليها، ليركب الموجة، ويقول أنا أيضًا عيني على غزّة، وعلى رفح، وعلى تلك الشهيدة الصغيرة، وذلك الأب الذبيح.

بينما الجماهير تغني له "لن ندعك تسير وحدك"، سار هو، وترك الجماهير تُذبح وحدها

لكنه "مو" لا أحد آخر، حيث الصمت صنعة، والسكوت فن، ومدير الأعمال دستور من السماء، والرغبة في فصلِ الحياة عن ذلك الصخب أهم من أيّ دم، كأنّ الرجل تلبّس مدينة احترافه، وارتدى ثياب سادتها، داهسًا العبيد المجلوبين من القارة السمراء، ومن "صراعات الشرق الأوسط"، وهم في نظره أدنى من حياةِ القطط!

لا يستحق الحديث؟ يستحق التجاهل كما تجاهلنا؟ متفق معك جزئيًا، لكننا لسنا في علاقةِ خطوبة معقدة، وإنّما في قضيةِ مصيرٍ وشرف، ومن يتجاهلنا نحاسبه، ونضعه على ميزان البشر، وفي موضعه الحقيقي، لا نكتفي بتجاهله، لأنّه بذلك الصمت اشترك في الإبادة، كمن وجد الناس يُذبحون في بنايته، وكان بإمكانه أن يوقظ الشارع كلّه، لكنه بدلًا من ذلك، بقي ساكتًا، يشيح بوجهه في الاتجاه الآخر، دون إبداء ولو شعور الصدمة، دون الكتابة بدلًا من الصياح لو كان أبكم، دون أي شيء، إلا أنه وضع سماعةَ أذنيه، ليسمعَ الجماهير العريضة تغنّي له أهزوجته المفضلة "لن ندعك تسير وحدك"، بينما سار هو، وترك الجماهير تُذبح وحدها.