أحاديث المضافات وكوميديا الأسماء
قال الأستاذ "مجيد الدردي" إنه أصبح شديد الإعجاب بجلسات "الإمتاع والمؤانسة" التي نقيمُها هنا في مدينة إسطنبول التركية، وإنه يتمنى أن نستمر بإشراكه فيها طالما بقي مقيماً هنا، لأن هذه الجلسات برأيه شبيهة إلى حد بعيد بسهرات المضافات التي كانت تقام في مدينة إدلب في قديم الزمان.
وأوضح أن "المضافة" كانت لها مكانة اجتماعية واسعة، لأن إحداثها يقتصر على الأغنياء، وعلى الأشخاص البارزين في كل عائلة كبيرة، وكان الفقراء يرتادون المضافات مع أنهم غير قادرين على افتتاحها، لأنها مُكلفة، إذ يجب أن يكون فيها عامل أو أكثر للخدمة، وأن تبقى فيها دلّة القهوة المرّة جاهزة، تحسباً لدخول ضيف مفرد أو مجموعة من الضيوف، إضافة إلى إبريق الشاي، والأراكيل، وتوفر الموادّ الأولية كالتنباك والفحم، وأحياناً يأتي ضيوف من خارج المدينة، وهؤلاء يجب أن تُذْبَح لهم الخراف إذا كانوا مهمين، أو يُقَدَّمَ لهم طعامٌ متوسط الفخامة إذا كانوا من عامة الناس.
قال كمال: كلامْ الأستاذ مجيد صحيح مية بالمية. وأنا عندي إضافة زغيرة، هيي إنُّه المضافة كانتْ تَعطي فكرة عن الحياة الاجتماعية للبلد، وبنفس الوقت كانت هيي مصدرْ للأخبارْ. ولا تنسوا، بهديكة الأيام كانوا الناس يهتمّوا بأخبارْ أهل البلد، ويحفظوها، ويتناقلوها بين بعضهم، وفيه أشخاص بيتمتَّعوا بذاكرة قوية كتير، والواحد منهم كان بيعرفْ أيشْ عم يصير في البلد بشكل يومي، وأولْ بأولْ. والشخص اللي بيهتم كتير بالأخبار والأنساب والتواريخ كانوا يقولوا عنه: حَفْظَان. مثلاً، لما بينذكرْ إسم (فلان) من الناس، بشكلْ عرضي، بيتدخلْ هادا الحفظان وبيقول: فلان؟ أيْ. عرفته. هادا أبوه من هون، وأمُّه من العيلة الفلانية من ضيعة بنّشْ، وهدول أخوالهم من معرتمصرين، وعلى علمي ساكنين في إدلب من خمسين سنة، وكان أبوه لـ(فلان) مستأجرْ بيت في حارة الشيخ منصورْ، بعدين سجل في جمعية "مساكن المعلمين"، وصار عنده بيت ملك، وجَوَّزْ بنتُه لواحدْ من بيت (علان)، وهادا بعدما أخد البكالوريا تطوع بالجيش، ووصل لرتبة "مقدم"، وكانت خدمته العسكرية في الفرقة التالتة، بعدين نقلوه ع التدريب الجامعي في الشام، لأنه مغضوب عليه، عنده أربع ولاد، تلات بنات وصبي!
ضحك أبو جهاد وقال: هادا الحفظان لازم يوظفوه بالنفوس!
قلت: أنت عم تمزح يا أبو جهاد؟ صدق كان عندنا موظف نفوس رائع اسمه "أبو محمد" بيعرف كل عيلة من عائلات البلد مسجلة في أيّ مَحَلّة، وبيعرف رقمْ الخانة.. أنا بتذكر لما صار عمري خمسة عشر سنة رحت ع النفوسْ وطلبت من "أبو محمد" يطلّع لي هوية، وقلت له اسمي محمد خطيب بدلة. فتأمل فيني شوي، وقال لي: إنته ابن أبو طارق. صح؟ قلت له صح. قال لي أمك المعرتمصرينية ولا اللي من قرية حزانو؟ قلت له: أمي المعرتمصرينية. قال لي: أيوه. يعني إنته أخوالك بيت الشيخ.. ومد إيدُه إلى حائطْ مليانْ دفاتر كبيرة وضخمة، سحبْ دفترْ كبير وقال لي: إنتوا من محلة "محمد آغا"، وبظن رقم خانتكم 35. وفتح الدفتر ع الخانة 35، وقال لي: إنته الولد السابع. صح؟ أنا بوقتها اندهشت وقلت له: أي والله صح.
قال أبو الجود: أبو محمد اللي عم تحكوا عليه كانوا أهل ضيعتنا يشتكوا عليه!
استغرب الأستاذ مجيد وقال: كيف عم تقولوا إنه إنسان كويس، وكيف أهل ضيعتكم بيشتكوا عليه؟
قال أبو إبراهيم: الشكاوي ما إلها علاقة بالموظف نفسه. لاكن لما بيكون في خطأ في اسم شخص معين، وهالشخص أرادْ يصحح الخطأ فلازم يرفع دعوى قضائية على موظف السجل المدني. هيك القانون بيقتضي.
قال كمال متوقعاً أن الموضوع الذي يريد أبو الجود طرحَه فيه نوع من الطرافة: إذا سمحتوا خلونا نسمع الحكاية من أبو الجود.
قال أبو الجود: أهل ضيعتنا مو متعودين ينادوا لبعضهم بحسب الإسم الموجود في الهوية أو في سجل النفوس. أنا، مثلاً، من لما وعيتْ ع الدنيا بعرف حالي إنه اسمي "محمد كامل إبراهيم"، ولما دخلت عَ المدرسة راح أبوي على دائرة النفوس، لعند "أبو محمد" اللي حكينا عليه، وجاب قيد نفوس بإسمي، وسلمه للإدارة.
وفي يوم من الأيام كان معلم الصف عم يْثَبِّتْ أسماءْ التلاميذ الحاضرين، وأنا ما ذَكَرْ إسمي، وكانوا كل التلاميذ موجودين وثَبَّتُوا حضورهم، وبالأخير بقي اسم واحد هوي: عدنان حاج حسن. وبوقتا صار في عندنا مشكلتين، أول مشكلة إنه أنا ما إلي إسم في دفتر الدوام، وتاني مشكلة إنه التلميذ عدنان حاج حسن غايب بدون عذر شرعي. ولما المعلم سحبني من يدي وأخدني لعند المدير تبين إنه أنا هوي الطالب اللي إسمُه (عدنان حاج حسن)! وبوقتها راح أبوي ورفع دعوى قضائية على موظف النفوس أبو محمد وساوى إسمي: محمود عبد الجبار!