أجر البطيخة المضاعف

07 ديسمبر 2021
+ الخط -

ينشدك الأمل في لحظات إلى أن تؤنّب ضميرك على أفعال لم تكن في الواقع تبدر من أشخاص تكنّ لهم وافر الاحترام والتقدير، وتقدّر جهودهم ونجاحهم وتفوقهم، وأنهم يتحلون ببذار الطيبة والوقوف إلى جانب الآخرين وتقديم المساعدة لهم. ولمجرد موقف ما، تتغير الصورة التي كنت راسمها في مخيلتك لأمثال هؤلاء. لمَ لا وأنت تدركُ تمام الإدراك أنَّ ما يجعلنا نتساءل حيال ما يجري حولنا هو عن هدف الإنسان في هذه الرحلة، التي تمتد طوال فترة عمره الزمني، سواء أطالت أم قصرت.

ولا يسعك، وأنت تقرأ هذه الأسطر، إلّا أن تقف مذهولاً من فحوى العلاقة التي تربط بين الأصدقاء، وإن لم يكتب لهذه الصداقة أن تدوم إلا أياماً، إلا أنّها ظلت تبحث عن نتيجة بهدف إحباطها، ولا بد أن يكون عامل الزمن وحده الذي باستطاعته أن يعي مفهومها، وعلى ماذا تدلّل.

وفي هذا السياق، نقف مندهشين أمام هذه الصداقة الباهتة، التي تخلو من أي نوع من أنواع الحب الصادق.

وإذا ما حاولنا الوقوف عند هذه النقطة تحديداً، فإنها صارت تؤرخ أكثر لموقف فيه الكثير من الصخب، ومرارة المعاناة، لجهة صديق كان يدعي الاحترام والصدق، وتحليه بنبل الأخلاق والشيم الأصيلة. وهذه جميعاً كانت في يوم ما متأصلة في روحه، في وجدانه وفي ضميره، ولكن الموقف عرّى كل ذلك، وأظهر ما كان خافياً، وبكل بساطة، لمجرد موقف تافه!

هل من اللائق بمكان، أن تتعرّى الصداقة، وتفقد مكانتها لمجرد موقف يؤسف له

وإن خدشتُ الحياء، فقد أكد لي أحد الأصدقاء الذين تعرّفت إليهم في الولايات المتحدة الأميركية، وهو إنسان بسيط، بما تدلّ عليه هيئته وتعامله الحسن، واهتمامه بصديقه الإنسان، بعيداً عن الترّهات، وعن أي مصلحة ما، وعمّا يقال من آراء حوله؛ فهو جدير بأن يكون الأب الروحي للكثير من الشباب العرب الذين سبق أن التقيتهم هنا، في ولاية لويزيانا، لأنه - بصراحة - يتحلى بطبائع إنسانية، وبساطة، وأخلاق رفيعة، لم ألحظها في شخص آخر، وإن كان يعيش على الكفاف، على ما تجنيه يداه، وعلى الرغم من وضعه الصحي، وتقدمه في السن، فهو أكثر ما كان يهمّه إرضاء الآخرين وتقديم يد العون لهم، دون مقابل، وهذا ما فرض عليه الواقع أن يعيش بهذه البساطة التي تخلو من الكبرياء والنرجسية التي وجدتها في كثيرين من أبناء العروبة في تلك البلاد المزهرة، الغنية بالدولار.

هذا الإنسان، وما سبق أن ذكرته، لا يشكل إلا جزءاً بسيطاً من مواصفات عرفتها عنه من قرب، باعتبار أنه لازمني لفترة طويلة، وعشنا معاً، من خلال كرمه، وسعة أفقه، وانفتاحه على الناس، وضيافته لي في بيته المتواضع، وفي أخلاقه، وفي حسن تعامله، وهذا ما جعلني أحترم فيه الكثير من مسوّغات حياة قلَّ فيها الانزعاج والألم.

هذا الصديق، التقيته في لويزيانا، وكانت بداية علاقة صداقة وود حقيقي، بعيداً عن أي روابط ومصالح أخرى، بل على العكس شاب تلك العلاقة الكثير من الود، وغلبت عليها العواطف الجيّاشة المفرحة. وفي يوم ما، تشاء الصدف أن يعمل صديقنا مع شاب عربي سبق أن كان يقيم معه في السكن، ولمَّا شملهما لحاف واحد، وتأججت العلاقة بينهما مع مرور الوقت، وشابها شحنات كثيرة، ما جعل الموقف بينه وبين ذاك الصديق الذي أعرفه أغرب من الغرابة ذاتها! وقد دعا صديقي العزيز إلى أن يهيئ بعض الإفطار لزملائه في العمل في شهر رمضان، فاشترى بطيخة، على أن يتناولها مع زملائه بعد تناول الإفطار، وفي المكان الذي يعمل فيه، بالإضافة إلى وجود عدد من الأصدقاء. وفي أثناء محاولة صديقي خروجه من مكان العمل، دون إذن مسبق من "المانجر"، المشرف على سير العمل، ما أثار حفيظة صاحبنا، فرد عليه بعبارات قاسية، ولم تقف المشكلة عند هذه النقطة، بل تجاوزتها وأتبعها تصرف آخر أكثر غرابة، وهو أن صديقنا، بعد مرور أكثر من ساعتين على موعد الإفطار، جلب البطيخة التي اشتراها لتوزيعها على زملائه في العمل، بعد تقطيعها، إلا أنَّ صديقنا العربي "المانجر" هو الآخر لم يرقْه تصرف ذلك الصديق البسيط، واعتبره خارجاً عن العرف، وضياع وقت ساعات العمل في اللهو، ما حمله على حمل البطيخة ورميها في كيس الزبالة، وهذا ما أثار حفيظة العاملين الذين عايشوا الموقف، ما دعاه إلى ترك العمل!

والسؤال: ما السرّ الذي دفع صديقنا إلى رمي البطيخة في الزبالة، التي فتحت أمامه فيما بعد طريقاً أفضل، وعملاً في مكان أفضل، وتعرّف إلى أناس أكثر إنسانية وطيبة، يعرفون كيف يحترمون علاقة الصداقة، ويؤسسون لها، كي تستمر، بعيداً عن قشور البطيخ، التي، للأسف، أسّست شرخاً في العلاقة الوجدانية بين هذا المشرف "المانجر" الذي يدير السوبر ماركت الذي يملكه تاجر عربي، وذاك العامل البسيط الذي أمضى أكثر من ثلاثين عاماً قضاها في الولايات المتحدة، والذي لم يسبق له أن واجه أمثال هذا الموقف الذي غلب عليه، كما يبدو الحقد والضغينة، وغياب الضمير قبل كل شيء!!

والسؤال: هل من اللائق بمكان، أن تتعرّى الصداقة، وتفقد مكانتها لمجرد موقف يؤسف له، كما هو الحال مع هذه الشخصية التي لم تدرك بعد أفق الحياة، وهدفها الوحيد هو التنصل من أي علاقة وجدانية، والتغني بالدولار، وعدم الاعتراف بالأشخاص، كأشخاص، واحترام مكانتهم العلمية والثقافية والاجتماعية، وإن كان عاملاً يعمل بالأجر اليومي وفي بلاد المهجر، تحت ظروف الحاجة، والتخلّي عن الصبغة الأساس، في بلاد العم سام، عن مفهوم العربية، والشيم الأصيلة التي نعرفها، وأخلاق العرب الفضيلة التي ما زلنا نفاخر بها، بعيداً عن أمثال هؤلاء الأشخاص الذين فجّروا مأساة لعلاقة لم تبلغ سوى الوصول إلى غاياتهم وأهدافهم المرسومة، ومن ثم رفسهم للغير، وبكل بساطة، حفاظاً على أحلامهم ورغباتهم وأمانيهم، ومن أجل جمع مقدار من المال، ولكن للأسف، على حساب تشويه صورتنا العربية، والازدراء بالآخرين، وأمثال هؤلاء كثر، وما كان من أجر البطيخة، إلّا أن أثمر وأينع وحصد صاحبنا المتواضع خيراً وافراً، على عكس صديقنا الآخر الذي لم يحصد سوى القنوط والحسرة والندم!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.