أبي الذي غرق في عالمه
لم يكن أبي صاخباً يوماً.
هادئ، وخفيف الظل، وصاحب ذاكرة ثاقبة. يحفظ أرقام الهواتف، والأسماء والعناوين، من دون حاجة إلى مذكّرة أو ورقة، كما يعرف تفاصيل العائلات والأحياء، وصلات القربى التي تجمع هذا بذاك. لكن في لحظة واحدة، ذابت ذاكرته. تبخّرت. قيل لنا بداية إنه "ألزهايمر"، ثمّ تبيّن أنه يعاني من داء جسيمات ليوي. خرِف أبي في لحظة واحدة، وهو في بداية ستينياته.
أرثيه اليوم، بعد عامين وشهرين من رحيله. عامَان وشهرَان كاملان، أعيد تفاصيل مرضه في رأسي. ولد أبي بما يشبه الشلل في جزئه الأيسر، وهو يعاني من مشكلة في يده ورجله. لم أنتبه لذلك إلا وأنا في السابعة عشرة من عمري، عندما سمعت أمي تتحدث مع عمّاتي عن الموضوع عرضاً. لم يبدُ عليه المرض يوماً، كان يعمل 12 ساعة يومياً، يعمل أيام الأسبوع ويوم السبت أيضاً.
تقول أمي إنني ورثت عنه الهوس بالعمل، وعدم احتساب الساعات. لا أذكر حتى إصابته ببرد خفيف، أو بحرارة وإرهاق. ثم فجأة، في لحظة واحدة، بات أبي مريضاً، ننتظر موته. نحسب مراحل المرض، ومدتها، ومؤشراتها: الآن سيبدأ باستحضار أحداث من الماضي، ثم تأتي مرحلة التخيّلات الوهمية، بعدها ستبدأ المرحلة العصبية، ثمّ سيصبح صامتاً، ولن يقوى على المشي مجدّداً. ووسط كلّ هذه المراحل، سينسانا أحياناً كثيرة ويتذكرنا ربما في أحيانٍ أقل. ثم سيغرق في عالمه.
غرق أبي في عالمه، عندما توقف عن الكلام. وانتظرنا. ماذا يفعل أهل المريض غير الانتظار؟ انتظرنا الموت، الذي لا موعد له. لا أمل بالشفاء، ولا دواء للمرض، سنتفرّج جميعاً على تدهور حالته، ثم إصابته بالتهاب في الرئتين ليموت على إثره.
رحل أبي، بينما كانت البلاد تنحدر إلى ما هو أسوأ من الحرب
لم أحزن عندما نسيَني أبي، ولا عندما انفصل عن الواقع. أي واقع أساساً هذا الذي كان سيعيشه: تفشي فيروس كورونا، الانهيار اللبناني الكبير، انفجار المرفأ. هي رحمة الله، أقول في سرّي، فكيف له هو الذي عاش الحرب، والاجتياح، والهرب بعائلته، أن يتحمّل كلّ ذلك؟
عاش أبي حياته خائفاً من عودة "الأحداث". هكذا يسمّي جيله الحرب الأهلية. ينام ويصحو ويسأل أمي "شو قولك بدا تِعلق؟ لا مش رح تعلق" يجيب بنفسه عن السؤال. عرف طيلة حياته كيف يطمئن نفسه، كيف يطمئننا، حتى عندما أخذتنا الحياة إلى أماكن لم يخطّط لها، حتى عندما تدهور العمل، ثم استقام، ثم تدهور، ثم استقام.
رحل أبي، بينما كانت البلاد تنحدر إلى ما هو أسوأ من الحرب. أحبّ أبي بلاده. لم يغادرها في الحرب حتى عندما أتيحت له الفرصة. أحبّ بلاده، وأحبّ الموسيقى، وأحبّ أمه وإخوته وزوجته وأحبّنا، كما لم يحبّ أحد أبناءه: دعم كلّ خياراتنا في الحياة، دافع عنّا في كلّ مرة ارتكب أحد فينا خطأَ ما، كان موجوداً دائماً. موجود بخفّته، ومن دون سطوة الأب التي تُرعب الأبناء. كنّا نعلم أنّه هنا، في كلّ مرحلة من حياتنا.
رحل أبي.
بعد عامَين وشهرَين، أدرك أنّ أبي رحل ولن يعود. وإدراك هذا الواقع، بثقله ومباشرته، أسوأ من كلّ أحزان العالم.
قبل عامَين وشهرين، رحل أبي.