أبو عناد.. عندما سب الرئيس

01 مايو 2023
+ الخط -

بعد انقضاء شهر رمضان، لم يعد هناك إمكانية لعقد لقاء يومي، منتظم، مع الصديق الرائع أبو عناد.

في رمضان كنا نلتقي يومياً، بعد الإفطار، في مقهى الريحاني، ونستمر بشرب الشاي والقهوة، وتبادل القصص والأحاديث حتى وقت السحور، وأحياناً كنا نجوع، فنرسل "مريد" ابن نادل القهوة يشتري لنا بعض المأكولات الجاهزة، نتناولها في المقهى ونكمل سهرتنا. ولكن، في الأيام العادية؛ إذا مرت فترة طويلة لم نلتق فيها، يبادر أبو عناد للاتصال بي عبر الهاتف، أو يستعير موبايل أحد أصدقائه، فهو لم يشتر موبايلا طوال حياته، ويملي عليه رقمي، ويطلبني، ويكلمني مقترحاً عليّ طلعة، أو سهرة، وأحياناً كان يرتب لي مقلباً يؤدي لأن نجتمع، ثم ندعو أصدقاء آخرين للانضمام إلينا، وبعدها يبدأ هو بسرد حكاياته الشيقة، ونضحك نحن جميعاً، بينما يبقى وجهه عابساً، لا يوجد أي بصيص أمل في أن نراه، يوماً ما، حتى ولو مبتسماً.

بعد مضي حوالي عشرة أيام على انقضاء رمضان، كنت جالساً في منزلي بحي البيطرة، ورن موبايلي. وجدت على الشاشة رقماً غريباً. قال المتصل:

- مرحبا يا عم. أنتم طلبتم صينية كنافة؟

- لا.

- كيف لا؟ مو أنت خطيب بدلة أبو.. أبو أيش؟ ها هو اسمك مكتوب عندي في الورقة: أبو مرداس.

- أنا هو. ولكن أنا لم أطلب كنافة. مَن قال لك؟

- أوصاني عليها واحد صاحبك، اسمه أبو عناد.

ضحكت من قلبي. أدركتُ أن أبو عناد كان يشتهي الكنافة، وهو مفلس، كالعادة، فرتب القصة بطريقة ذكية جداً، وهي أن يَحضر لزيارتي ومعه صينية كنافة، ونأكل منها معاً، وأنا أسدد ثمنها!

وهذا ما حصل. المهم ذهبنا، بعدما أصبنا شيئاً من الكنافة، لزيارة صديقنا المشترك أبو وردان، في مكتبه الذي يخصصه في النهار لبيع وشراء العقارات، وفي المساء لاستقبال أصدقائه والسمر حتى وقت متأخر من الليل.

تقصدت، في تلك السهرة، أن أفتح سيرة الأشخاص الذين يمتلكون مقدرة عجيبة على الامتناع عن الضحك. وقلت:

- يا أخي الواحد، عندما يسمع قصة مضحكة، فليضحكْ بسعر الناس، وأنا أؤكد لك أن الضحك مجاني، يعني (إذا ضحكت ما بتصرفْ بنزين).

وحقيقة أن أبو عناد لم يكن صاحب الوجه المكفهرّ الوحيد عندنا، ففي البلد عدد لا بأس به من الأشخاص الذين لا يضحكون مهما بلغوا من السعادة. حكى لنا أبو وردان عن صديق له، اسمه ممدوح، اتصل به أحد أصدقائه، وقال له:

- كان أخوك "مَجّود" البارحة يسهر مع أصحابه في مقهى الحاج غزال، شاهدته وهو فارط من الضحك.

قال ممدوح: هذا مو أخي.

استغرب الصديق، وقال له: يبدو أن بينكما زعلاً جعلك تتبرأ منه؟

قال: لا، أبداً، لا يوجد زعل، ولكن أخي مجود لا يضحك أبداً، فكيف تقول لي شاهدته وهو فارط من الضحك؟

تدخل أبو عناد، قائلاً ما معناه أن قيامنا نحن بفعل الضحك هو الغريب، وإنه يتحدانا أن نذكر له ميزة واحدة للعيش في هذا البلد، تمنحنا السعادة، وتجعلنا نضحك.. ومن جهة أخرى، الشخص الذي لا يضحك يمكن أن يشتغل بالتمثيل، ويكون بطلاً، بل نجماً كوميدياً. وضرب لنا مثلاً بمسرحية الواد سيد الشغال لعادل إمام، حينما بدأ يرتجل، وانفلت عمر الحريري والممثلون الآخرون بالضحك، وبقي هو صامداً، ما يعني أنه أكبر نجم كوميديا في البلاد العربية دون منافس.

قلت: معك حق يا حبيبنا أبو عناد، في التمثيل لا يجوز لنجم الكوميديا أن يضحك، ولكن عادل إمام نفسه، يضحك في الحياة اليومية.

قال: الأمر لا يقتصر على التمثيل. المرحوم أبي كان يقول لنا إن الضحك يقلل الهيبة، يعني، عندما نجتمع أنا وأنتم الذين تقولون: هئ هئ كه كهي، أنتم تتبهدلون وأنا أحافظ على هيبتي! هل تعرفون قصتي مع المخابرات العسكرية سنة 1981؟

- لا نعرفها.

- طيب. سأحكيها لكم. استدعوني إلى فرع الأمن العسكري، بعدما تشاجرت مع عنصر مخابرات أثناء شغلي في مديرية المالية. كانت الحديدة في تلك الأيام حامية، ومَنْ يذكر حافظ الأسد بكلمة يمكن تفسيرها على أنها إساءة له، يذهب في خبر كان، ولا يجرؤ أحد حتى أهلُه على السؤال عنه.

قلت: في تلك الأيام، ما كان أحد يجرؤ على الاقتراب من أصغر عنصر أمن، فما بالك بذكر حافظ الأسد بسوء؟

- نعم. وأنا، حينما تشاجرت مع الرجل لم أكن أعرف أنه عنصر أمن. المهم أنه دخل إلى مكتبي وصار يعمل حركات استعراضية ليوحي لي أنه رجل مهم، حتى إنه تقصد أن يُظهر المسدس الموضوع تحت ثيابه. وأنا، على الفور، قررت أن أعرقل له المعاملة التي قدمها لي وهو واثق أن توقيعي عليها روتيني. أنا فتحت المعاملة، وبدأت أفتح عيني مندهشاً، ثم صفرت بفمي، وقلت له: يا لطيف. ما هذه المعاملة؟ ومن يجرؤ على التوقيع عليها؟ حاول يضغط علي. قال: أشكوك لوزير المالية. فقلت له: طز بوزير المالية، وبرئيس الوزراء عبد الرؤوف الكسم. وقبل أن يحكي قلت: وطز بأعضاء مجلس الشعب، والقيادة القطرية.

قال لي متحدياً: وبالسيد الرئيس؟

قلت نعم، طز بالسيد الرئيس المفدى حافظ الأسد!

قال أبو وردان: استغرب أنه لم يطلق عليك النار.

قال أبو عناد: وأنا أيضاً استغربت. يبدو أنه خاف من جديتي، ومن سهولة استهجاني لكل المسؤولين في الدولة، وبضمنهم حافظ.

- وكيف انتهت القصة؟

- عنصر الأمن طق عقله. صار يصرخ، لكي يجمع علينا الموظفين والمراجعين، وأنا أسرعت إلى الباب، وأقفلته من الداخل، وصرت أسب على الكل، ولكن بصوت منخفض، ووقتها طلب مني أن أفتح الباب، لكي يخرج، وكان له ذلك، ومن توه ذهب إلى مدير المالية، ونقل إليه خبر تلك الفظائع التي ارتكبتُها أنا، بالتفصيل، فاستدعاني المدير، وما إن دخلت، حتى بدأ الهاتف يرن في مكتبه، وحينما بدأ يحكي امتقع لونه، وقال:

- طيب معلم. حالاً.

ونظر إليّ بغضب وقال لي وهو يرفع يديه إلى الأعلى مثل العجائز المنكوبات: الله يخرب ديارك يا أبو عناد، وينتقم منك، خربت بيتي وبيتك في نفس الوقت.

وطلب مني ومن العنصر أن نتبعه إلى سيارته، وطلعنا كلنا. وبعد قليل، أصبحنا نحن الثلاثة في مكتب رئيس فرع الأمن العسكري، وحينما أدخلونا إلى المكتب كنتُ أنا الوحيد المُطَمَّش. وبدأ رئيس الفرع يسألني وأنا أجيب:

- ولاك حيوان، أنت سبيت على الوزير؟

- نعم.

- وعلى رئيس الوزارة؟

- نعم. سبيت عليه. وبالأمارة اسمه عبد الرؤوف الكسم.

- على السيد الرئيس حافظ الأسد؟

- نعم. سبيت.

- وعلى مدير المالية؟

وهنا صرخت: لأ. قسماً بالله العظيم إن العنصر الذي أبلغك بذلك كذاب، بشرفي ما سبيت على مدير المالية!

وفجأة سمعته يضحك مقهقهاً، وبعد ثوانٍ سحبني أحد العناصر، وأخرجني من المكتب، ومشى بي قليلاً، ثم رفع عن وجهي الطماشة، وقال لي:

- الله يخرب ديارك. أيش قلت لرئيس الفرع حتى ضحك كل هذا الضحك؟

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...