أبو عناد المبدع في الحقارة
عدت بذاكرتي إلى ذلك اليوم البعيد، حينما كنا أنا وصديقي "أبو عناد" جالسين في مقهى الريحاني، وهو يحكي لي عن اللقاء (التاريخي) بينه وبين دائنيه، ويشير بيده إلى القسم الجنوبي من المقهى، ويقول:
- اجتمعنا هناك. هل تصدّق أنني كنت وحدي، في مواجهة جيش من الدائنين؟
وصاح لأبو مريد: هات لنا تنين قهوة، وخذ ثمنهما من الأستاذ.
وتابع يشرح لي وجهة نظره في مجال اختصاصه، وهو الدَيْن والاقتراض، فقال:
- الأغنياء، يا أستاذ، مشاكلهم تافهة، ومتشابهة، زبون باع للغني سيارة جديدة، وآخر اشترى منه سيارته المستعملة، ومارس عليه شيئاً من الطمع، وثالث يرسل أهله ليخطبوا له فتاة معينة، وعندما يعودون، في المساء، تقول له أمه: يا ابني هؤلاء الجماعة "هردبشت"، ليسوا من مستوانا، وتصف له عمته الفتاة، بأنّ شعرها مكزبر، أو فمها مبحبح، وتنط خالته وتقول: ولي عليها، ما طقتها، تمشي وتتمختر وكأنها بنت آغوات، مع أنّ والدها دكانجي في سوق الهال، وأمها قَيّمة حَمَّام.. وإذا تزوج هذا الغني السخيف، تجهد هذه المجموعةُ نفسها في إقناعه بتطليق الزوجة، بعد أقل من ستة أشهر من اقترانه بها، ويعدونه بأن يزوجوه أحسن منها بألف مرة، على أساس أنه رجل استثنائي، مع أنه إذا جردناه من ثروته لا يُباع بربع ليرة.. وأما نحن الطفرانين، فقصصنا عليها القيمة، والدليل أنك، يا أبو المراديس، من يوم أن دخلت في عالم كتابة القصة القصيرة، تركض وراءنا لتضرب معنا صداقة، وتسمع حكاياتنا، وتجعلها موضوعات لقصصك.. ووالله الحق معك، لأنك إذا مشيت مع الأغنياء خمسين سنة، لن تعثر على قصة مثل قصة الاجتماع الذي جرى بيني وبين الدائنين هناك، في تلك القرنة. صح؟
- لا أجزم بأنه صح، فربما تحدث، في عالم الأغنياء، قصصٌ ذات قيمة. وأما حكاية اجتماعك مع الدائنين، فلا شك أنها طريفة، ومهمة.
وصار أبو سليمان يأتي في منتصف الشهر، أو مرة كل أسبوع، لسببين، الأول، أن يحصل من أبو عبدو أي مبلغ، مهما كان صغيراً، ثم ليتأكد من صحة مزاعم أبو عبدو، بل لنقل أكاذيبه
- عليك نور يا خاي، وأنا أريد منك أن تعلم، أنّ هناك نوعين من الفقراء الطفرانين المديونين، نوع غبي، وجاهل، يقترض ولا يستطيع التسديد، ثم يقع في براثن الدائنين الذين يحملون دفاترهم ويذهبون إلى أبيه، أو أعمامه ويطالبونهم بالتسديد نيابة عنه، وإذا فشلوا في التحصيل، يبطحونه أرضاً، ويدوسون عليه مثلما كنّا ندوس، ونحن صغار، فوق كيس الحصرم، لكي نعصره، وتعبئه والدتي في زجاجات، وتخبئه لتضعه مع الفتوش، وهناك النوع الذكي، المثقف، مثلي أنا! (قالها وتصدّر إلى الخلف متباهياً بنفسه).
- بصراحة يا أبو عناد؟ أنا لا أجد فرقاً كبيراً بين النوعين، فأحدهما يُضرب ويُداس بالأحذية، والثاني يتعرض للتوبيخ والبهدلة، يعني هناك ضرب مادي، وضرب معنوي، والفارق بينهما ليس كبيراً.
- بل هو كبير. سأشرح لك ذلك. أنا، أول ما طلعت على صنعة الاقتراض، كنت غشيماً، مبتدئاً، ولكنني قرّرت أن أرتقي بنفسي، فصرتُ أقرأ أخبار الطفرانين في الصحف، وأستمع إلى برنامج حكم العدالة، لأعرف ما جرى معهم عندما يقودهم الطفر لارتكاب جريمة، وأزور القرى، وأجمع حكايات الناس المديونين، ومنهم العم أبو عبدو من قرية البلاطة.
- وما حكايته؟
- هذا يا سيدي، اقترض خمسة آلاف ليرة من أبو سليمان، لكي يشتري سيارة مستعملة، يعمل عليها في نقل الركاب بين قرية البلاطة وبلدة معرة مصرين، ووعده بأن يدفع له ثلاثمئة ليرة شهرياً من وفورات شغل السيارة، واشترى سيارة بالفعل، ولكنها كانت عاطلة، تشتغل يومين وتتعطل، وتصبح بحاجة إلى دفش مثل سيارتي التي حكيت لك عنها. بالمناسبة، أنا، ذات مرة، تمكنت من جمع مبلغ مائة ليرة، واشتريت بطارية جديدة لسيارتي، يعني أنها صارت تشتغل من دون دفش، ولكن، كلما خرجت من الدار، واتجهت إلى السيارة، أجد ثلاثة شبان أو أربعة يضعون أيديهم عليها من الخلف، ويقولون لي: تفضل ندفشك عمي أبو عناد. وأنا من فرط حقارتي، كنت أقول لهم: أي والله يا عمو، ممنونكم. وأتركهم يدفشونها، فأوفر بذلك ما يمكن أن ينقص من البطارية فيما لو شغلتها بشكل طبيعي.. يعني، يا أبو مرداس، حتى دفش السيارات يحتاج إلى ثقافة!
- أخي أنا أبصم لك بالعشرة على أنك مثقف. أكمل لي قصة أبو عبدو.
قال أبو عبدو: أنت رجل مقتدر، ربنا يرزقك ويعطيك، ولا أظنك تبخل بخمسمئة ليرة، على الأقل، نؤمن بها مستقبل هذين الطفلين البريئين. فغرغرت عينا أبو سليمان بالدموع، وأخرج من جيبه خمسمئة ليرة
- صار أبو سليمان يأتي في رأس الشهر إلى دار أبو عبدو ليأخذ منه القسط، فيبدأ أبو عبدو باختراع الحكايات، من قوله إن أم عبدو ولدت، وعلى أثر الولادة صار معها حمى النفاس، ونامت أسبوعين في المستشفى، أو يقول له إن السيارة كانت ماشية بأمان الرحمن، وفجأة صارت تنتّع، وتفور الماء من الرادياتور، وشحطناها إلى معرة مصرين لنصلحها، وبقينا متعطلين عن الشغل أسبوعاً كاملاً، وصرفنا الغلة عليها.. وصار أبو سليمان يأتي في منتصف الشهر، أو مرة كل أسبوع، لسببين، الأول، أن يحصل من أبو عبدو أي مبلغ، مهما كان صغيراً، ثم ليتأكد من صحة مزاعم أبو عبدو، بل لنقل أكاذيبه.. وهكذا حتى وقعت تلك الواقعة الرهيبة، التي استفدتُ منها درساً في الاقتراض الذكي، لن أنساه ما حييت.
- عظيم. يعني الآن، وصلنا إلى ذروة حكاية أبو عبدو.
- صحيح. وصل خبر لأبو عبدو أنّ أبو سليمان مستنفر، وأنه سيأتي خلال هذين اليومين لزيارته على نحو مفاجئ، وسيكون، كما قال لأصحابه، إما قاتلاً، أو مقتولاً، أو يحصّل دينه بالكامل. فماذا فعل أبو عبدو؟ لقد رتب الأمور بطريقة لا يوجد أذكى منها في العالم... فبعدما وصل موكب أبو سليمان، الذي أتى ومعه ثلاثة رجال من أولي العزم، استقبله ببشاشة، وأجلسه في غرفة الاستقبال، وطلب من أم عبدو أن تقدّم للضيوف طعام الغداء، وبعدما تغدوا، وشربوا الشاي، طرح أبو سليمان فكرته، وهي أنه لن يخرج من هنا إلا وقد حصّل دينه بالكامل، حتى لو اضطر إلى حجز السيارة وبيعها بالمزاد العلني، واسترداد حقه من ثمنها.
- كلام جميل.
- وفي تلك اللحظة، دخل اثنان من أبناء أبو عبدو، والدموع تجري على خديهما، أخبره أحدهما، وهو يبكي، أن المدير طردهما من المدرسة. سأله عن السبب، فقال إن المدير وبخهما أمام زملائهما، قائلاً إنهما أصبحا عالة على المدرسة، يأتيان وليس معهما كتب أو دفاتر أو أقلام، ولا يدفعان مبلغ النشاطات المقرّر. هنا قال أبو عبدو مخاطباً أبو سليمان:
- خطية هؤلاء الأولاد في رقبتك يا أبو سليمان!
انتفض أبو سليمان، كالملسوع، وقال: خطيتهم في رقبتي أنا؟ أنا أيش دخلني؟
قال أبو عبدو: أنت رجل مقتدر، ربنا يرزقك ويعطيك، ولا أظنك تبخل بخمسمئة ليرة، على الأقل، نؤمن بها مستقبل هذين الطفلين البريئين.
غرغرت عينا أبو سليمان بالدموع، وأخرج من جيبه خمسمئة ليرة، وضعها أمام أبو عبدو، وخرج من المجلس مع رجاله الأشداء بلا ضجيج.
(للسالفة تتمة)