أبو الفلاح يكتب عن دولاب الدولة المصرية (4)

08 نوفمبر 2021
+ الخط -

بدأت ملامح الإدارة الفوضوية في عهد الخديوي سعيد تتضح بعد فترة وجيزة من مجيئه للحكم، حين قرر أن يستعرض مهاراته العسكرية المتخيلة، فأمر لطيف باشا مفتش عام الصعيد بأن يفرض على البدو تسليم أسلحتهم، وأن يفرض عليهم تقسيم أنفسهم إلى جماعات صغيرة، فتحصل كل مجموعة على تصريح بالسفر من مشايخهم في كل مرة يريدون فيها السفر، حتى لو كان ذلك السفر بصورة مؤقتة، متصوراً أنه يقوم بترسيخ هيبة الدولة بمثل هذه القرارات غير الواقعية، وعندما رفض زعماء القبائل أصر سعيد على أوامره مهدداً باستخدام القوة، وقرر القيام بحملة ضدهم، وقرر أن يقود الحملة بنفسه، فسار على رأس جيشه من الإسكندرية حيث كان يقيم، وبعد أن عبر الصحراء ووصل إلى مشارف الصعيد، وبدأت مناوشات جيوشه مع البدو، تم استدراج جنود جيشه إلى كمين بسبب عدم معرفتهم بالصحراء التي يحفظها البدو عن ظهر قلب، وكادوا يُذبحون عن بكرة أبيهم، لولا تدخل شيوخ القبائل الذين علمتهم تجارب الحياة أهمية حفظ كرامة الوالي وعدم إلحاق هزيمة ساحقة به، حتى لا تتعرض سلامتهم الشخصية للخطر، ولذلك حرصوا على تملقه وتهدئة ثائرته، على أمل أن يهدأ التوتر بينهم وبين الدولة ويتمكنوا من استئناف حياتهم بسلام.

للتدليل على عنترية سعيد وعشوائية قراراته، يروي نوبار باشا في مذكراته بعض تفاصيل هذه الحملة التي يصفها ساخراً بـ "الحملة المغوارة"، فينقل عن أحد مشايخ البدو أن سعيد خلال تلك الحملة اعتقد أن هناك هجوماً مفاجئاً يُشن عليه من مجموعة من البدو، وبدلاً من أن يقوم بمواجهتهم قرر الفرار بصحبة بعض الفرسان، واستمر في الهرب إلى أن خارت قوى فرسه على ضفاف بحر يوسف "حيث شوهد يلهث ويجفف عرقه منهكاً عطشاً يشرب الماء بكفي يديه"، ومع ذلك لم يقرر سعيد الانسحاب بل استمر في المواجهة التي أدت إلى أن يفقد بعض تعساء الحظ حياتهم على حد تعبير نوبار، ولم يختر إنهاء المواجهة إلا حين أصابه الملل منها فاكتفى بما حققه من نتائج هزيلة، كان على رأسها إخضاع إحدى القبائل ونقل بعض من رجالها إلى محافظة الغربية حيث تم توزيع الأراضي عليهم هناك، بينما فضلت قبيلة أخرى الخروج من مصر والعودة إلى موطنها الأصلي في بنغازي، ليعتبر سعيد أنه حقق بذلك انتصاراً، دون أن يتعلم ـ كما يشير نوبار ـ من تجربة محمد علي باشا الذي تكبد عناءً شديداً من أجل اجتذاب البدو إلى مصر لمساعدته في حملاته العسكرية، وهو ما واصله من بعده إبراهيم باشا الذي استخدمهم فرساناً في سلاح الخيالة خلال حملاته على الشام، وكذلك عباس باشا الذي لم يكتف باحترام ما وهبه جده محمد علي لهم من أراضٍ لكنه ضاعف أيضاً عددهم واعتبرهم حراساً لحدود مصر وحماة لأمنها.

تغيرت لهجة نوبار في الحديث عن الخديوي سعيد بعد أن عاد إلى العمل معه، فهو يصف في أكثر من موضع كيف بدأ سعيد في الاقتداء بأفكار والده محمد علي باشا

بعد أن فشلت مغامرته العسكرية وجد سعيد لنفسه مغامرة جديدة هي حفر قناة السويس التي عرضها عليه المسيو فرديناند دي ليسبس الذي وصل القاهرة بعد أيام فقط من عودة سعيد من القسطنطينية بعد أن حصل على فرمان الولاية، وهنا يشكك نوبار في مصدر فكرة حفر القناة قائلا إن دي ليسبس حصل على الفكرة من موجول بك الذي سبق له أن قام بتشييد قناطر على النيل، ويدعي البعض أنه حصل عليها من لينان بك، ثم يبدي نوبار سخطه على الفكرة، فيكتب بعد أن التقى أمين سر سعيد والذي كان مدرسه السابق للغة الفرنسية قائلاً: "هذا البائس علم تلميذه اللغة الفرنسية ولم يحاول تعليمه تاريخ بلده مصر التي كان يقول إنه تعرف على تاريخها بنفسه، لأنه فاته أن يقرأ على تلميذه الفقرة التي جاءت في كتاب هيرودوت والتي قص فيها أن الفرعون نخاو خطرت له فكرة وصل البحرين عن طريق قناة، واستشار أولا كاهنة معبد دلفي اليونانية، وتخلى عن مشروعه بعد أن جاءه رد كاهنة المعبد بأن هذا العمل ستكون نتيجته تسليم البلاد إلى البرابرة".

يعترف نوبار لقارئ مذكراته أنه كان مكتفيا كغيره بترتيب أوضاعه والبعد عن إبداء آرائه، بعد أن تم استبعاده من العمل في ديوان الدولة، ويعلق على ذلك الاستبعاد قائلاً: "لماذا؟ لأنني خدمت عباس بكل ما لدي من إخلاص، ولم يكن هذا بالتأكيد سببا من أجل تحطيم مستقبلي بهذا الشكل ولكننا كنا في بلد كانت فيها إرادة ونزوات الحاكم هي القانون الذي لا رجعة فيه"، لكن نوبار لم يستطع التأقلم مع حياته الجديدة بعيداً عن الخدمة في دولاب الدولة، فاضطر أن يلجأ إلى أحد الأوروبيين من أفراد حاشية سعيد، ومع أنه يصف هذا الرجل بأنه كان "فظاً بلا مستوى علمي أو ثقافي"، إلا أنه يحدد مواهبه التي أهلته للخدمة في حاشية سعيد وهي أنه كان "يمتلك روحا مرحة وكانت تصرفاته العنترية المثيرة للضحك من النوع الذي يعجب سعيد، وكان له تأثير كبير على الوالي بفضل براعة فائقة تخفي وراءها قدرا كبيرا من البوهيمية والغموض"، ومع أن هذه المواهب لم يكن لها علاقة بما كان يمتلكه نوبار من كفاءات وخبرات، إلا أنها كانت كافية لإقناع الخديوي سعيد بأن يسحب قرار الاستغناء عن نوبار ويعيده للعمل معه من جديد.

بالطبع، تغيرت لهجة نوبار في الحديث عن الخديوي سعيد بعد أن عاد إلى العمل معه، فهو يصف في أكثر من موضع كيف بدأ سعيد في الاقتداء بأفكار والده محمد علي باشا، وأخذ يحسن أوضاع الشعب، ويسعى لتحقيق الرخاء في البلاد، وبدأ يرفض التدخل في التفاصيل اليومية للإدارة، فحذا المديرون في سائر البلاد حذوه ولم يتدخلوا في أعمال المشايخ أو الناس، "ودفع الفلاح ضرائبه دون الحاجة للجوء إلى التهديد بالعصا، لأن ارتفاع أسعار الحبوب مكنه من الدفع من غير أي استثناء وتأجيل، ولم يعرف الشعب المصري أوقاتا أكثر سعادة من تلك التي يعيشها حيث أبطلت العصا رمز الفراعنة وكل من خلفوهم من أباطرة وسلاطين وبكوات ومماليك".

ثم يوجه نوبار انتقاداً معتدلاً لسياسات سعيد في الحكم حين يقول: "ولولا حياة الجندية التي تبناها سعيد وأسرف فيها في بدايات حكمه ولولا السخرة التي أدخلها في مشروع قناة السويس نتيجة سوء الحسابات وضعفها، لولاها ولولا كل هذا العدد الهائل من الرجال الذين استخدموا من أجل المشروع لم أكن سأعرف أيا من الشعوب الأوربية الكبيرة كان يمكن أن تعتبر نفسها أنها تعيش في مثل هذا الهدوء والسعادة التي كان يعيش فيها الشعب المصري. إنني لا أبالغ في شيء إن قلت إنني سمعت أيضا في كل مكان هذا القول يتردد على لسان الأوروبيين الذين يعيشون في مصر ومن الأتراك وحتى من المصريين أنفسهم وحتى في بعض مراكز تشريع القوانين في أوروبا: "إن إدارة مصر تحتاج إلى يد من الحديد المسلح"، لكن التجربة التي طبقت في عهد سعيد ألم تكن دليلا حيا يثبت أن العكس هو الصحيح، إذ كان التقليل من حدة السيطرة الإدارية وتحكم الحكومة يزيد الشعب رخاءً ويصبح أكثر ثراء وتقدما ونماءً".

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.