أبو الفلاح يكتب عن دولاب الدولة المصرية (3)

07 نوفمبر 2021
+ الخط -

يرسم نوبار باشا في مذكراته بعض الملامح الدرامية لحكام مصر بعد رحيل محمد علي باشا، ويبدأ بالخديوي عباس حلمي الأول الذي يقول إن أبرز صفاته أنه كان شكاكاً للغاية ولا يثق بأحد من رجاله وأفراد حاشيته أبداً، ثم يستدرك معلّقاً على ذلك بكشف المزيد من التفاصيل عن علاقة من سبقوه بالشك والحذر وعلى رأسهم محمد علي باشا قائلاً: "ومن لم يكن كذلك؟ لقد كان إبراهيم يعيش على الشك دائماً وأبداً، ألم يظل محمد علي نفسه الذي سيطر على الجميع بذكائه أسير هذا الإحساس لآخر يوم في حياته، وهل كان يستطيع حتى وهو في حالة نصف الجنون التي كانت تنتابه البقاء ولو للحظة دون سيفه وحاجبه؟ ألم يكن بناء على أوامره أنه في كل مرة يتم تقديم الماء والقهوة له تكون حركته الأولى هي إبعاد الكوب والفنجان ثم يقول إنها غير نظيفة فيرد المملوك الذي تعود منه على هذا التصرف بالرد عليه بنفس الجملة دائما "فلأحرم من استعمال ذراعيّ وساقيّ، وأن أظل طوال حياتي أهيم على وجهي أتسول من الناس عبر الطرقات إذا لم يكن هذا الماء نظيفاً"، وكأن نوبار باشا كان يريد أن يقول لقارئه إن شعور الخديوي عباس بالشك الدائم أمر مبرر، وهو الجديد على كرسي السلطة، إذا كان محمد علي باشا الذي سبقه إلى الحكم بسنين طويلة، واستطاع أن يتخلص من كل منافسيه ومعارضيه، ومع ذلك ظل يشعر بكل هذا القلق والتوجس مع كل كوب ماء يشربه.

يقول نوبار باشا إن هذا الشك الدائم والخوف من كل من حوله جعل ميول الخديوي عباس للتسلط والبطش كبيرة، خاصة أنه كان مقتنعاً بوجود مؤامرة كبرى ودائمة عليه، ولذلك اختار أن يعيش في عزلة ووحدة وتحت حراسة مشددة، ويصف نوبار حياة عباس قائلاً إنه كان "يدبر كل شيء بمنتهى الاستبداد من داخل أعماق قصره، يطاع بشكل تام طاعة عمياء من الجميع، كان القصر الذي أنشأه لنفسه في صحراء العباسية قد تم تأثيثه بذوق مرهف على أيدي كبار الفنانين، لكن على الرغم من هذا كان القصر وأثاثه كئيباً، ويمكن أن أقول إنه كان مغلفاً بالسكون ويهيأ لك في أي لحظة أنه يمكنك سماع ذبابة وهي تطير، كنت في بعض الأحيان أحس بالانقباض وأنا أسير داخل القصر وبداخلي إحساس بالبرودة العارمة التي لا نهاية لها".

انعكست هذه الروح الموحشة الكئيبة التي أدار بها الخديوي عباس قصره على مصر بشكل عام، ليرى المصريون بياناً عملياً على عبارة "الناس على دين ملوكهم"، وهو ما يشرحه نوبار حين يقول: "كانت مصر كلها على مدار أربع سنوات من حكمه تشبه سراي عباس، حيث لم يكن الناس يتزاورون أو حتى يدعون بعضهم بعضاً، وكان كل فرد يعيش منطوياً ومنعزلاً فقد كان خليفة إبراهيم رجلاً قاسياً إلى حد التوحش. في ذات مرة قال لي وأنا أحاول التماس العذر لأحدهم: "إنني قادر على فعل أي شيء وكل من حولي يجب أن يكونوا مثلي قادرين على فعل أي شيء"، وفي مرة أمر عباس بحياكة فم إحدى وصيفاته لأنها تجرأت على التدخين في جناح الحريم مخالفة بذلك أوامره، ولما كانت حظائره تضم خيرة سلالات الخيول العربية فقد منع دخولها تماماً مثل الحرملك. لكنه في نفس الوقت لم يكن يحب فرض مصاريف باهظة على الشعب، وكان لديه أفكار اقتصادية جيدة وكان يحب أن يعرف كل شيء وأي شيء من خلال الطريق السرية، حيث كان يتجول كل عام في جزء من الدلتا يفتش على شيء".

لكن اليد الحديدية لم تنفع الخديوي عباس حلمي الأول كثيراً في الاستمرار في حكم مصر، حيث تم اغتياله في قصره ببنها بعد أن طعنه أربعة من مماليكه في أثناء نومه، ويشير نوبار إلى مقولة ترددت أن نازلي هانم عمة الخديوي أغرت اثنين من المماليك الذين قتلوا الخديوي بجسدها ليقوموا بتنفيذ العملية ليلة 10 أو 11 يونيو/حزيران 1854، لكن طبيب القصر أعلن رسمياً أن الوفاة كانت لأسباب طبيعية، وهو إعلان "طبيعي" في عالم القصور الحافلة بالانقلابات والدسائس، ومع أن نوبار لا يؤكد شيئاً ولا ينفيه بشكل قاطع، لكنه يورد تفاصيل تؤكد أن رحيل عباس لم يكن طبيعيا بالمرة، حيث يقول إنه "تم كتمان خبر الكارثة لمدة 48 ساعة نُقل خلالها جثمان عباس من بنها إلى قصره بالعباسية في وضح النهار بعد أن تم إجلاسه بثيابه الرسمية في عربة تجرها أربعة خيول كما لو كان على قيد الحياة وجلس إلى جانبه ألفي بك وهو أحد عبيده ومندوبه الخاص للمراسم".

لكن ما يمكن وصفه بأنه طبيعي للغاية، هو حديث نوبار عن طريقة تعامل حلفاء الخديوي عباس مع خبر وفاته، حين يشير إلى أنّ "كل حلفاء عباس نسوه فوراً وقال أحد أبرز حلفائه عنه: "لقد تم نسيان عباس ولم يعد أحد يتحدث عنه وكأنهم كانوا يقولون في أنفسهم "فلنتصرف وكأنه لم يكن موجوداً"، لقد انتهى كل شيء، وفي الحقيقة انتهوا منه ومن أفكاره ومن الزمن الذي عاش فيه وأسلوب الإدارة والحكم الذي كان محتذياً فيه أمثال أسلافه، كل هذا انتهى تماماً وتبدل بنظام فوضوي متسيب يفتقر تماماً إلى احترام الذات"، وفي تقييم ختامي لتجربة الخديوي عباس حلمي الأول في الحكم لا يخفي نوبار إعجابه به بقدراته الإدارية قائلاً: "لقد تخلى التاريخ عن عباس تاركاً في الظل الحديث عن قدراته ومميزاته الرفيعة كإداري له مبادئ ونظام في الحكم والاقتصاد، ولم يُرَ من عباس سوى هذا الشخص المنطوي المنعزل في قصره سواءً بالعباسية أو بنها منغلقاً وسط حراسة مماليكه ونسي الناس أن عهده كان أكثر العهود أماناً في مصر، ولم يكن هناك وال في مثل حكمته وقدرته على إدارة الاقتصاد وموارد الخزانة والدولة وحرصه على مصالح البلاد".

وعلى العكس من رأيه الإيجابي في الخديوي عباس، يسجل نوبار باشا آراء شديدة السلبية في خليفته الخديوي سعيد باشا الذي تولى حكم مصر عام 1854 ليصفه بأنه "كان أميراً شاباً مفتوناً بالسلطة عاطفياً شديد السطيحة ويفتقر تماماً إلى احترام الذات كلياً، محبّاً للمظاهر البراقة، غير مدرك ولا يعي أنّ حاشيته تدفعه وتسيره وتسيطر عليه، بل كان يعتقد في البداية أنه هو الذي يقودها ويسيطر عليها"، ليتحول حكم مصر حسب تعبير نوبار إلى "رواية فوضوية" بدأت فصولها في بلاط الوالي، ثم امتدت بقوة إلى إدارات الحكومة حتى وصلت بشكل أقل قوة لتنتشر بين صفوف الشعب الذي تأثر بفوضوية سعيد، مثلما تأثر من قبل بصرامة عباس وقسوته.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.