آلام إبكتيتوس
سعيد ناشيد
لم يكن إبكتيتوس الذي يُعتبر من أعظم فلاسفة الحياة البسيطة، في بداية أمره سوى عبد مملوك لسكرتير الإمبراطور الدموي نيرون، يعمل لديه في ظروف شديدة القسوة والضراوة. ذلك أنّ السيد الذي ورث بعضاً من طغيان نيرون لم يكن يتورع عن محاولة إذلال عبده في كلّ مناسبة، ثم يزداد شراسة كلّما أظهر العبد القدرة على الصبر والتحمّل.
كانت رصانة العبد تُحرج السيد الأهوج وتحمله على مزيد من الحقد والضغينة، وكان التحدي الباقي أمام العبد أن يتحمّل الجحيم إلى أن يأتي اليوم الذي ينتهي فيه كلّ شيء لا محالة. غير أنّ الجحيم كان يزداد سعيراً، ذلك أنّ السيد كان يتحرّج من أن يرى أمامه عبدًا بخصال السادة الذين يتحكمون في أهوائهم، فيبدو هو في المقابل بخصال العبيد الذين لا يتحكمون في أهوائهم. وهكذا كان غضبه يتعاظم يوماً بعد يوم.
في مواجهة المحنة المتعاظمة، انتهج إبكتيتوس أسلوب امتصاص الضربات، حتى لا يستنزف نفسه بمشاعر التذمر والسخط والحقد والندم، والتي لن تردّ حقاً ولن ترفع باطلاً. كان عليه أن يُساير القدر الذي لم يكن بإمكانه تغييره، لا سيما في تلك الأزمنة القاسية، كان عليه أن يتكيّف مع القدر بكلّ مرونة، إلى أن تظهر فجوة في الأفق، أو يتاح قدر آخر في الأخير.
على أنّ مبدأ التكيّف مع القدر لا يحيل إلى الاستسلام كما قد يفهم البعض، بل العكس تماماً، يتعلّق الأمر بمهارة قتالية لا يتم امتلاكها إلّا بجهد جهيد، ولا يستوعبها إلّا القليلون. وعلى سبيل المثال، سواء تعلّق الأمر بالطاوية ومن ثم فنون القتال اليابانية، أو الرواقية ومن ثم الفلسفة الرومانية، فإنّ قدرتنا على مسايرة القوة المضادّة هي فرصتنا لكي نعيد توظيفها لصالحنا، وذلك مهما بلغت ضراوتها، بل لا سيما حين تكون شديدة الضراوة. ذلك الأسلوب سيصطلح عليه الفيلسوف الألماني، فريدرك نيتشه، بـاسم "محبّة القدر"، amor fati. لكن، بصرف النظر عن الترجمة التي قد تكون حَرفيّة أكثر مما ينبغي، فالتعبير الأدق فيما أرى أن نستعمل عبارة، التكيّف مع القدر. أعني، المرونة في مسايرة ضربات القدر، والتي قد تكون معادية بحيث لا تمنحنا فرصة لمحبتها، ولو على طريقة "من صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر". ومن يدري؟ لعل شيئاً من اللاوعي المسيحي كامن في تصوّر نيتشه نفسه لمحبة القدر!
استطاع إبكتيتوس أن يقلب موازين "جدل العبد والسيد"، فصار يبدو هو السيد حتى في أقسى معاناته، وصار السيد يبدو هو العبد حتى في أقصى طغيانه
لا تحيل استراتيجية التكيف مع القدر إلى الجبن والفشل إذا، بل تمثّل نوعاً من الحنكة والشجاعة في تدبير الطاقة الحيوية، والتي لا ينبغي استنزافها في معاكسة قوة القدر، وهذا من الأمور التي يعرفها الرواقيون، بل يجب امتلاك القدرة على امتصاص الضربة، والتكيّف معها بالسرعة الكافية والمرونة اللازمة، أملاً في تعديل مسارها ولو قليلا، وذلك عندما تحين الفرصة، أو بعد حين.
بأسلوبه في التكيّف مع القدر استطاع إبكتيتوس أن يقلب موازين "جدل العبد والسيد"، فصار يبدو هو السيد حتى في أقسى معاناته، وصار السيد يبدو هو العبد حتى في أقصى طغيانه. ولقد صدق أفلاطون حين قال: الطاغية هو الحاكم الذي فشل في أن يحكم نفسه، لكنه يريد أن يحكم الناس، ولذلك فهو عبد في قرارة نفسه.
ما مآل إبكتيتوس في النهاية؟
ظلّ السيد غضوباً حاقدًا متوّترًا على الدوام، إلى أن خسر سيادته على نفسه، وظلّ العبد في المقابل هادئاً باستمرار، إلى أن أثبت سيادته على نفسه. وكان ذلك يزيد من إحراج السيد المغتر بنفسه، ويُشعره بالنقص أمام عبد كان يواجه التعذيب برباطة جأش منقطعة النظير، إلى أن اهتدى الجلاد إلى لعبة بالغة الخطورة، حيث أخذه، ووضع ساقه داخل آلة تعذيب، لعلها معصرة الزيتون على الأرجح، ثم بدأ يدير الدولاب للضغط على الساق. لم يصرخ العبد لكنه قال بهدوء: إنك ستقطعها يا سيدي! وكلما قال العبد ذلك برصانة واتزان، واصل الجلاد تدوير الدولاب بعصبية وتهوّر، إلى أن وقعت المأساة، وتدلت الساق المبتورة على الأرض، فنظر العبد إلى سيده، وقال له بكلّ هدوء: ألم أقل لك إنك ستقطعها يا سيدي!؟ صُعق الجلاد، وضعف أمام الموقف، ثم استسلم وانهار.
العامل الأساسي في إضعاف قدرتنا على تحمّل الألم هو الخوف مما قد يخبرنا به الألم: الموت، البتر، الشلل
لم يكن إبيكتيتوس قادراً على تحمّل الألم إلا لأنه كان قادرًا على تقبّل الأسوأ برباطة جأش. تلك هي المعادلة التي لم يدركها الجلاد في حينها. ذلك أنّ العامل الأساسي في إضعاف قدرتنا على تحمّل الألم هو الخوف مما قد يخبرنا به الألم: الموت، البتر، الشلل، إلخ. قد لا نستطيع أن نطرد الألم، لكننا نستطيع أن نحدّ من أثره السلبي على النفس والروح، إلى أن يزول.
يقال، نهاية مأساوية خير من مأساة بلا نهاية. وكذلك كان. خسر السيد "جدل العبد والسيد" بدون شرف، فأطلق سراح عبده فوراً بلا شروط. وما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبح إبكتيتوس بمحاضراته ومواقفه مرجعاً كبيراً في الحكمة الرومانية، وفلسفة الحياة.
خسر إبكتيتوس ساقه بالفعل، لكنه لم يخسر إرادته. وهو القائل في بعض دروسه: "الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الإرادة".
خسر إبكتيتوس ساقاً واحدة، لكنه ربح نفسه كلها، بل ربحته البشرية جمعاء، باعتباره أحد أعظم فلاسفة الحياة البسيطة، حياة البسطاء.