وبدا واضحاً أن تراجع "البديل لأجل ألمانيا" في أحدث استطلاعات الرأي، يعود إلى السقطات الكبيرة التي أوقع نفسه بها، أهمها ما كشفت عنه السلطات في البلاد من ملابسات تمويلية مريبة وتبرعات تلقاها الحزب من الخارج قبل الانتخابات العامة، كسبب أول للسقطات. فالحزب الذي كان يسوّق نفسه لفترة طويلة بأنه "يتمتع بالشفافية"، مقارنة بما وصفها "عمليات النهب التي تقوم بها الأحزاب التقليدية في البلاد"، سرعان ما تعثر بسبب التمويل المشبوه.
شكّلت مصادر التمويل فضيحة بعدما تم تجاوز قانون الأحزاب، واعتبار الادّعاء العام أن "وصول تبرّعات غير قانونية ومشكوك فيها من شركة أدوية في سويسرا، لحسابات المنطقة التي ترشحت فيها رئيسة كتلة البديل في البوندستاغ أليس فايدل، في انتهاك للقانون الخاص بالأحزاب السياسية".
ولم يكن "البديل لأجل ألمانيا" قد صرّح عن هذه "التبرعات" التي ناهزت الـ130 ألف يورو، فضلاً عن قيام مسؤول الحزب في ولاية تورينغن، بيورن هوكه، بجمع المال لأنشطة الحزب، التي وصلت بدورها لآلاف اليوروات بطريقة غير مباشرة وعبر جمعيات خارجية، ما يمكن اعتباره يندرج في إطار "مساهمات مالية سياسية غير مشروعة".
وكانت شركة الأدوية المتبرعة بالمبلغ، قد أعلنت بداية أن "التبرع جاء من رجل ثري يعيش في زيوريخ السويسرية، وأراد أن يبقى مجهول الهوية، ولذلك طلب تحويل الأموال إلى ألمانيا عبر حساب الشركة"، إلا أنه ومع التطورات والمنحى القانوني الذي سلكته القضية بدّل مجلس إدارة الشركة من تفسيراته لعملية التبرع المذكورة. وقال المجلس إن "هناك 14 اسماً في قائمة المانحين، ثلاثة منهم لديهم محلات إقامة في إسبانيا وواحد في بلجيكا". وبدا مستغرباً تبدّل تبريرات التبرع من قبل الشركة السويسرية وتغيير أقوالها من أن العملية كانت من مانح واحد، لتعود وتتحدث عن 14 اسماً. وكذلك أيضاً، هناك حديث عن إمكانية النظر في قائمة أخرى من الأسماء التي من المحتمل ان تكون قد شاركت في عملية التمويل، وهذا موضع متابعة من قبل "البوندستاغ" (البرلمان). كذلكك أعلنت فايدل أن "الأموال أُعيدت إلى أصحابها خلال الأشهر الماضية"، رافضة جميع الادعاءات في فضيحة التبرع. وأفادت بأن "النقاط الأساسية حول الشكوك خاطئة وغير كاملة ومغرضة"، معتبرة أن "ما يحصل هو محاولة لتشويه سمعتها الشخصية والسياسية".
وقد بوشر التحقيق ومناقشة طريقة التمويل، بعد أن قرر البوندستاغ التوسع لمعرفة تفاصيل القضية، فيما كشفت الحكومة أنها "ستطّلع عن كثب على الملف"، وهي على اتصال مع السلطات الدستورية في البلاد. ويأتي ذلك بعدما تبين أن "البديل لأجل ألمانيا" لديه شبكة من الرعاة السريين، الذين يقومون بتمويل أنشطة الحزب السياسية، وفي ظروف مريبة، من بينها أيضاً شركة إعلانات قامت بدعمه بملصقات ومنشورات وإعلانات في ولاية شمال الراين فستفاليا. واستفاد منها الزعيم المشارك للحزب يورغ مويتن، مبرراً حصوله على المنح بـ"الصداقة الشخصية التي تربطه مع رئيس الشركة".
ويبدو أن صرامة القانون الألماني في هذا المجال وآلية التبرع والتصريح عنها من قبل الأحزاب، حتّمت على البوندستاغ فتح تحقيق في القضية. مع العلم أن هناك شبه إجماع سياسي على أن قائمة الأسماء التي تم الإعلان عنها أخيراً، لا تعفي الحزب من المسؤولية ولا تغيّر من واقع التمويل الحزبي غير السليم شيئاً، بعدما أصبح واضحاً أن الأموال تمّ جمعها في سويسرا وتحويلها من قبل الشركة المذكورة. بالتالي فإن ما يدّعيه "البديل لأجل ألمانيا" غير منطقي وغير قابل للتصديق، هذا بالإضافة إلى أن المانحين الألمان لا يملكون سبباً وجيهاً لتحويل تبرّعاتهم عبر سويسرا، فضلاً عن احتمال أن يكونوا قد قدموا تبرعات قبل ذلك. بالتالي، فإن الدفعات أو المنح الإضافية تعتبر غير مقبولة، بحكم أن الأرقام قد تكون تجاوزت المبلغ المسموح به. وهو ما جعل القضية أكثر تعقيداً والتشكيك بمصداقية ما يقدم عليه "البديل لأجل ألمانيا" وحتى بالأسماء التي تقدم بها لإدارة البوندستاغ، لمنع المساءلة القانونية عنه.
وأصبح "البديل لأجل ألمانيا" متهماً اليوم بأنه "تعامل مع مصادر غير معروفة لتحصيل الأموال"، وهو ما كان السبب في تمدده واستمالته للناخبين في انتهاك واضح للقوانين المرعية في البلاد. وجددت الفضيحة المخاوف من تسليط الضوء على خطورة المال السياسي، خصوصاً لجهة توظيفه في إطلاق المبادرات وتسويق الحملات وتعزيز الحضور لدى الأفراد وتنظيم التحالفات والمؤيدين، ما يزيد من السلطة والنفوذ والتأثير بشكل مباشر على تفكير الناخبين وأفعالهم.
السبب الثاني، يتمثل بوجود "البديل لأجل ألمانيا" نفسه أمام مأزق توقف الجدال بين الحزبين الشقيقين في الاتحاد المسيحي، والشريكين في الائتلاف الحاكم، بعد تنازل كل من ميركل وزيهوفر عن قيادة حزبيهما، ما اعتبر خسارة لـ"البديل لأجل ألمانيا" بعد أن كان يصوّب سهامه يمنة ويسرة على ميركل، عند كل استحقاق داخلي، والتي كانت تمثل صورة العدو المفضل لـ"البديل لأجل ألمانيا".
سبب ثالث ضرب "البديل لأجل ألمانيا"، يتجسد في تراجع أعداد الواصلين من اللاجئين إلى البلاد بعد موجة عامي 2015 و2016، ما ساهم بسحب ورقة مهمة كان يجاهر بها الحزب اليميني المتطرّف، في ساحاته لاستقطاب الرأي العام. واعتُبرت مؤشراً على إنهاء قصة نجاحاتهم بعد أن كان قد نجح في تعبئة واستمالة الآلاف من الناخبين من الأحزاب التقليدية عبر التحريض والكراهية ضد الأجانب واللاجئين، سمحت له في الفترة الماضية بالدخول بقوة إلى برلمانات الولايات والبوندستاغ خريف عام 2017.
السبب الرابع جاء عبر مجاهرة "البديل لأجل ألمانيا" أخيراً، في موازاة تحضيره لخوض انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة في مايو/أيار المقبل، حول نيته السعي لخروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي إذا لم يتم الإصلاح داخل التكتل، في الوقت الذي تعاني فيه رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي داخل مجلس العموم (البرلمان البريطاني) للتوصل إلى اعتماد مسودة الاتفاق المتفق عليها مع الاتحاد قبيل مغادرة بريطانيا نهاية مارس/آذار المقبل، مع تفشي حالة الخوف على استقرار اليورو والتجارة البينية التي تعتبر عامل قوة للاقتصاد الألماني.
السبب الخامس مرتبط بظهور "البديل لأجل ألمانيا" جنباً إلى جنب مع النازيين الجدد في شوارع مدينة كيمنتس، خلال تظاهرات شهر أغسطس/آب الماضي وشهدت مطاردة للأجانب ومشاحنات مع رجال الشرطة، ناهيك عن التوجهات المتطرفة والاعتراض على فكرة التآخي والتنوّع داخل المجتمع الألماني، رغم أن ألمانيا بلد هجرة.
في هذا السياق تدرس "هيئة حماية الدستور"، فرض رقابة على "البديل لأجل ألمانيا" مع ثبوت تواصل مناصريه مع جماعات يمينية متطرفة نازية، إذ تم فرض رقابة جزئية على منظمات شباب الحزب في ولايات بريمن وسكسونيا السفلى وبادن فورتمبيرغ. ما دفع زعيم "البديل لأجل ألمانيا" ألكساندر غاولاند، للقول إن "درس هيئة حماية الدستور لفرض رقابة على حزبه، هو تعدٍّ على الديمقراطية، لأنه لا يوجد ما يسمى حالة الاختبار في القانون. والإجراءات من قبل الهيئة هي محاولة لتكميم حزب معارض". وعبّر عن صدمته من تسريب التقرير للصحافة، وهو ما انتقده أيضاً عدد من المحللين انطلاقاً من أن هذا النهج ليس قوة للديمقراطية بل عنصر ضعف. كل هذا قد يعجّل في جعل الحزب ظاهرة سياسية هامشية غير مؤثرة في المستقبل القريب على المواطنين، يُضاف إليها، تمكن الائتلاف الحاكم من طمأنة المواطن على مستقبله في مجالات الصحة والتعليم والتقاعد وخفض مستوى الضريبة.
لكن من جهة أخرى، يعتبر مراقبون أن هيئة حماية الدستور يجب أن تنظر ما إذا كان بوسعها الدفاع عن نفسها في المحاكم ضد الشكاوى، التي من الممكن أن يتقدم بها البديل لأجل ألمانيا، معتمدين على ما قاله غاولاند في مؤتمر صحافي حول القضية، بتأكيده أن "الحجج ليست مستدامة". وعبّر عن اعتقاده بأن "مناخاً اجتماعياً معيّناً، وبعض الضغوط السياسية، هي التي أدت إلى ذلك". وأبرز قانونيون أنه "لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن السلطة تتعامل مع أكبر فصيل معارض في البرلمان. كما أنه يجب التمييز أو تفسير مصطلحي (حالة اختبار) و(حالة اشتباه) في البعد القانوني، كما واعتماد التوصيف الدقيق، وإلا فإن ذلك سيرتد سلباً على السلطة وسيعيد الزخم الشعبوي للبديل في وجهة الائتلاف الحاكم".
واعتبر غاولاند أن "هذا الأمر ضروري وأساسي لحماية الدستور الألماني، لأنه يتطلّب في الواقع إجراء فحص شامل، لما إذا كان الحزب على الصعيد الوطني على وشك الابتعاد عن مبادىئ القانون الأساسي غير القابلة للتفاوض". في المقابل، وصف السياسي ألكساندر غراف لامبسدورف، من "الليبرالي الحرّ" في حديث مع "دي فيلت"، القرار بـ"المنطقي لأن البديل لأجل ألمانيا لم يميّز نفسه بوضوح عن اليمينيين المتطرفين داخل حزبه وخارجه".
من جهته، رأى نائب رئيس البوندستاغ، الاشتراكي توماس أوبرمان، أن "هذا الأمر طال انتظاره وعلى الهيئة أن تقوم بمراقبة التفاعل بين البديل لأجل ألمانيا والنازيين الجدد عن كثب، علماً أن المخابرات الداخلية وبحسب التقارير الصحافية، تلقت أكثر من 1070 وثيقة تم تسليمها من قبل الأجهزة الأمنية في الولايات في العام الماضي، بعد فحص وتقييم وجمع بيانات لأعضاء البديل لأجل ألمانيا، من بينها تلك المُستقاة من مواقع التواصل الاجتماعي والحملات الانتخابية المختلفة فيها، الأمر الذي يثبت اتصال المنظمات اليمينية المتطرفة بالحزب الشعبوي".