40 عاماً على نهاية حرب فييتنام... وآثارها حيّة تُرزَق

10 مايو 2015
احتفالات ذكرى سقوط سايغون (هوانغ دين نام/فرانس برس)
+ الخط -
في العاشر من أغسطس/آب 1961 اقتحمت طائرات سلاح الجو الأميركي أجواء مقاطعة كونتوم، شمالي فييتنام، وأمطرت مواقع الفييتكونغ (القوات الفييتنامية الشمالية) بالمبيدات، التي كانت تنتجها مختبرات وزارة الدفاع (البنتاغون) في إطار برنامج سري لإنتاج الأسلحة الكيماوية والجرثومية. برنامج ما زالت واشنطن ترفض الكشف عنه حتى اليوم.

منذ ذلك اليوم المشؤوم، وعلى مدى عشر سنوات متتالية، قصف الجيش الأميركي ما يُعادل خُمس مساحة فييتنام، بـ77 مليون ليتر من المواد السّامة التي أوقعت عشرات الآلاف من الإصابات القاتلة، وأحدثت تشوّهات خطيرة بين السكان، ما زالت آثارها المخيفة ظاهرة حتى اليوم. كذلك تسرّبت كميّات كبيرة من المواد وتغلغلت في تربة الأراضي الزراعية وحقول الأرز والأنهر والمناطق المأهولة.

يصف الجنرال الفييتنامي فون أنغوين جياب، الذي قاد أهم المعارك ضد الجيش الأميركي، في مذكراته تلك الحرب التي دامت عشرة آلاف يوم. ويقول جياب في مذكراته "كانت الحرب صراعاً بين فيل ونمر. إذا بقي النمر من دون حراك، فإن الفيل سيقضي عليه لا محالة. أما إذا واظب النمر على التربّص والانقضاض المفاجئ على الفيل، فسينهش قطعاً من لحمه، ثم يختفي في الأدغال متحيّناً الفرصة التالية. وهنا سينفق الفيل حتماً بفعل النزيف المتواصل".

"الحروب تنتهي لكن آثارها تبقى"، عبارة تستقبلك عند مدخل متحف الحرب الفييتنامية، في هو شي مين، يضّم شواهد عديدة على أجنّة مشوّهة، تبدو وكأنها مخلوقات من كوكب آخر، محفوظة في آنية معقّمة، لتخبر عن فظاعة الوسائل التي لجأت إليها الآلة العسكرية الأقوى في التاريخ، عندما وجدت نفسها عاجزة عن إلحاق الهزيمة بعدوٍ يستميت في الدفاع عن مواقعه بأسلحة شبه بدائية.

اقرأ أيضاً أميركا: آسفة ولكن..

وعلى مقربة من المتحف، يقوم مركز للعناية بضحايا الحرب المشوّهين، الذين ما زالوا على قيد الحياة. ويخبر أحدهم، تجاوز السبعين من عمره، كيف أنه بعد كل غارة للطيران الأميركي على المنطقة التي كان يعيش فيها مع أسرته، كانت تتصاعد أعمدة من الدخان الكثيف البرتقالي اللون، سرعان ما تحجب الرؤيا وتتسبّب في حالات من ضيق التنفّس والاختناق السريع، وما تلبث أن تنقشع وتبدأ أوراق الشجر بالتساقط لتتعرّى بعد لحظات.
ستة ملايين فييتنامي تعرّضوا لمادة "ديوكسين"، التي كانت تنتجها مصانع الجيش الأميركي بكميات كبيرة، وتحوي سموماً تتجاوز بنسبة خمسين ضعفاً ما تحويه المبيدات العادية. 

وتسبّب الإصابة بها تشوّهات وراثية وأوراماً وتخلّفاً عقليّاً، بالاضافة إلى أنواع غريبة من العاهات الجسدية. ويُقدّر أن عشرة غرامات من هذه المادة السامة ممزوجة بالماء تكفي للقضاء على مليون شخص. وما زالت آثار "ديوكسين" تضرب المجتمع الفيتنامي إلى اليوم، إذ تضاعفت التشوّهات الوراثية بنسبة أربع مرات، وما زال حليب الأمهات يحوي ترسّبات من المادة البرتقالية، التي تبقى في الفضاء أو التربة وتجمّعات المياه مائة عام.

التجوّل في مركز العناية أشبه ما يكون بكابوس، بفعل انتشار العاهات الجسدية الغريبة، منهم من دون أذرع أو أرجل، ومنهم مشوّهو الأطراف، مع رؤوس غير طبيعية. غير أن الحالات الأصعب، تعود لأطفال يعانون من تشوّهات عقلية ونفسية، ويتنقلون زحفاً، بحركات بليدة وعيون زائغة، تعصر الأفئدة، وما زال الطب عاجزاً عن معالجتهم. أكثر من مليون ونصف مليون من "أبناء العامل البرتقالي وأحفاده" ما زالوا يعانون من تلك الحرب.
وعدا البشر، فإن نصف مليون فدّان من الأراضي الزراعية وخمسة ملايين فدان من الغابات والمستنقعات الاصطناعية، أي ربع مساحة فييتنام الجنوبية، دمّرتها غارات القصف الأميركي بالمواد السامة وقنابل النابالم المحظورة.

وكانت القنابل قد استُخدمت للمرة الأولى في تلك الحرب، التي ارتكب فيها الجنود الأميركيون فظائع لم تشهدها أي حرب أخرى حتى اليوم. لكن فداحة "الألم البرتقالي"، لم تظهر سوى حين بدأ الجنود الأميركيون يعودون إلى الولايات المتحدة، ويكتشفون آثاره المدّمرة.

وكانت واشنطن تصف الأنباء المتداولة عن حالات المواليد المشوّهة، بأنها "مجرّد سلاح دعائي شيوعي لتشويه صورة الجيش الأميركي وضرب معنوياته". وفي العام 1967، وجّه "اتحاد العلماء الأميركيين" عريضة إلى البيت الأبيض، موقّعة من 500 باحث، بينهم 17 من حائزي جائزة "نوبل"، يطالبون فيها الإدارة بـ"وقف إنتاج تلك المواد إلى أن تقرر تقييد استخدامها في العام 1970". وكانت آخر الغارات التي استخدمت فيها قنابل النابالم، قد شُنّت يوم السابع من يناير/كانون الثاني 1971.

وأصرّت الإدارة الأميركية طوال عقود، على أن الأمراض الوراثية الناجمة عن فقدان اليود والإدمان على الكحول وسوء التغذية، هي السبب في ظهور تلك العاهات، لا قنابل النابالم. لكن في العام 1991 أقرّ الكونغرس الأميركي "قانون العامل البرتقالي" الذي اعترف، للمرة الأولى، بوجود علاقة سببية مباشرة بين مادة "ديوكسين" وعشرات الأمراض السرطانية والتشوهات التي أصابت الجنود الأميركيين الذين حاربوا في فييتنام ونسبة عالية من ذرّيتهم.

في التاسع من أغسطس/آب 2012، وخلال تدشين برنامج تموّله واشنطن لتنظيف مطار دانانغ الفييتنامي، الذي كان قاعدة انطلاق القاذفات الأميركية المحمّلة بالمواد السامة، قال السفير الأميركي ديفيد بي. شير: "حان الوقت كي نبدأ بتنظيف هذه الكارثة التي ما كان يجب أن تقع أبداً".

اقرأ أيضاً: الصين التي يخشاها الجميع