رفعت أم جاسر يديها إلى السماء مرددة: "حسبي الله ونعم الوكيل"، بينما عيناها تدمعان وهي تشكو إغلاق معبر رفح البري في وجه العالقين الفلسطينيين منذ 27 يوماً، في مدينة العريش المصرية شمال سيناء.
روت السيدة الأربعينية لـ"العربي الجديد" قصتها قائلة: "وصلت العريش مساء يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ونزلت بأحد الفنادق لأبيت ليلتي ثم أتجه صباحا إلى معبر رفح البري للدخول إلى غزة. ثم وقعت تفجيرات بمنطقة الشيخ زويد، وأغلقت السلطات المصرية بعدها المعبر من الجانبين في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ومن وقتها ونحن نعيش في عذاب".
تقيم أم جاسر في العريش منذ 4 أسابيع، وقد نفدت نقودها كلها، إذ أنفقتها على الفندق وتكاليف إقامتها وابنتها البالغة من العمر 3 أعوام. "لا تدري متى ستفتح مصر المعبر" تقول السيدة القادمة من الأردن في طريق عودتها إلى أسرتها في مدينة خان يونس بقطاع غزة.
معاناة من كل صنف ولون
أبو أحمد حرز الله، مسن فلسطيني، من أبناء محافظة خان يونس جنوب قطاع غزة، ظن أنهم سيعبرون مباشرة إلى غزة، إلا أنه فوجئ بإغلاق المعبر، ولم يعد معه ما يكفي من نقود لاستئجار غرف في الفنادق أو الشقق، فاضطر إلى المبيت في أحد المساجد.
يقول حرز الله لـ"العربي الجديد": "حتى المساجد أخرجتنا منها قوات الشرطة المصرية، بعد قرار حظر التجول في مدينة العريش. لكن عائلة سيناوية في العريش نقلتنا للإقامة لديهم في ديوانهم، ويتولون رعايتنا من دون تقصير. لا نعرف لماذا تمنعنا السلطات المصرية من العبور، ونحن أناس بسطاء، ولسنا منتمين لأي فصيل سياسي، ولن يفيدهم احتجازنا شيئًا".
قضت الفلسطينية "أم علاء" خمسة أسابيع بعيدة عن طفلتها التي تركتها في غزة، بعد أن خرجت مع زوجها إلى بلد عربي لحضور مؤتمر، وحال إغلاق المعبر بينها وبين طفلتها الوحيدة؛ مما جعل دموعها تنهمر وهي تتحدث إلى كاتب التحقيق، وتقول "لا نستطيع العودة عبر معبر رفح، ولا أستطيع أن أتحمّل شوقي لابنتي في غزة".
أما خلود البطة، من مدينة خان يونس، فلها حكاية أخرى؛ إذ فقدت طفلها في الشهر التاسع من حملها، بسبب توترها والحالة الصحية التي مرّت بها، بعد قرابة 4 أسابيع قضتها بالقرب من الحدود مع قطاع غزة.
خلود وزوجها وأطفالها الأربعة قرّروا العودة إلى قطاع غزة، بعد أن ألغت دولة الإمارات عقد عمل زوجها، فكان لا بد من أن يعودوا للقطاع، ولكنّ بوابات المعبر المغلقة وقفت أمامهم، فما كان منهم إلا الانتظار في مدينة العريش. فيما ضاعف ابتعاد الأطفال عن تعليمهم ومدارسهم من معاناتهم.
أثناء إعداد التحقيق رصدت "العربي الجديد" نوم كثير من العالقين الفلسطينيين في العراء انتظاراً لفتح معبر رفح. جنين السراج من مدينة غزة واحدة من هؤلاء تقول: "كنت في رحلة علاج إلى القاهرة ودخلت مصر قبل إغلاق المعبر بيوم واحد، وعدت إلى العريش منذ أسبوعين، وأنا الآن عالقة، ونقودي نفدت منذ أسبوع؛ لأنني لم أحسب حسابي على كل هذه المدة".
ويؤكد الغزاوي أحمد المنيراوي أنّ أوضاع الفلسطينيين العالقين في العريش تزداد سوءًا كل يوم، قائلاً "ازدادت معاناة العالقين، خاصة أنهم يدخلون في الأسبوع الخامس بعيداً عن ذويهم، وهو ما يتزامن أيضاً مع فصل الشتاء والبرد القارس وهم محتجزون".
تجاهل مصري فلسطيني
تشكو تهاني الأقرع من معسكر جباليا تجاهل السفارة الفلسطينية في القاهرة "ظروفنا قاسية، فيما تتجاهل السلطات المصرية طلبنا بأن نعود إلى ديارنا؛ لأن الأمور تتفاقم يوماً بعد يوم" تقول تهاني التي اقترب موعد وضعها مولودها الأول.
وبينما كان حسين دغمش المسافر الفلسطيني قادماً من القاهرة في طريقه إلى القطاع بعد إجراء عملية زرع كلى، أضحى عالقا في العريش في ظروف سيئة لا تتناسب مع "وضع مريض في فترة النقاهة" كما يقول "لا نجد من يقف معنا. الكل تجاهلنا". أما علي الصواف من أبناء مدينة غزة، فعبر عن غضبه الشديد من حالة التجاهل لأوضاعهم قائلا: "لم نجد أي اهتمام بنا من الجانبين المصري والفلسطيني؛ حيث لم تتواصل معنا أية جهات رسمية أو خيرية لتوفير متطلبات أساسية نحن بحاجة إليها".
إحصائية
حسب إحصائية أعدها الشيخ كمال الخطيب مسؤول الجالية الفلسطينية في شمال سيناء، فإن عدد العالقين الفلسطينيين الذين وصلوا إلى مدينة العريش بشمال سيناء قرابة 700 شخص، يقيمون في فنادق وشقق سكنية وشاليهات تقع على ساحل البحر، غالبيتهم يعيشون أوضاعا إنسانية صعبة، بعد أن نفدت نقودهم، وساءت أحوالهم الصحية والنفسية؛ جراء إغلاق المعبر، دون السماح بفتحه استثنائياً لعبورهم إلى غزة.
وفي تحذير من تسييس قضية العالقين الفلسطينيين بالجانب المصري، اقترح شيخ الجالية الفلسطينية ومنسق اللجان الفلسطينية في شمال سيناء تشغيل المعبر، وأن يتحمل كل طرف مسؤولية ما آل إليه وضع العالقين.
وتابع الخطيب في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد": "لن نقبل أن تبدأ مأساة أخرى، نحن لاجئون ونازحون، والآن عالقون، ونرى أننا أصبحنا فوق ذلك رهائن المصالح السياسية الضيقة المتصارعة من أجل أوهام سلطوية ذاتية، لا ناقة لنا فيها ولا جمل"، وتساءل: "هل ننتظر مخيماً آخر يضاف لمئات المخيمات، وهذه المرة للعالقين؟.
مبادرة شبابية للتخفيف عن العالقين
أوضاع العالقين الفلسطينيين الصعبة دفعت الناشط المصري في المجتمع السيناوي، إسلام عروج، وعددا من شباب العريش إل تأسيس مبادرة باسم "أهالينا من غزة بالعريش" دعما للعالقين الفلسطينيين، كما قاموا بالتواصل فيما بينهم وبين الأجهزة الأمنية لتسهيل حركتهم في المدينة، ونقل المرضي الذين ساءت حالتهم إلى المستشفيات.
عروج قال لــ"العربي الجديد": إن الشباب المتطوع في المبادرة، جمعوا أغطية وبطاطين، وبعض المستلزمات الضرورية من أطعمة وألبان أطفال وأدوية لتلبية حاجات العالقين، بعد أن تخلت عنهم السلطات الرسمية، وهذا دورنا وواجبنا تجاههم، ونتمنى من الحكومة المصرية فتح المعبر فورا لعبورهم إلى ديارهم".
المعبر لن يفتح
يصف مصدر أمني مسؤول في معبر رفح البري لـ"العربي الجديد"- في تصريحات مقتضبة- قرار فتح المعبر بـ"السيادي"، قائلا "حتى اليوم لم تصلنا أي قرارات حول فتحه". وأضاف "أعتقد أنه لن يفتح خلال هذه الفترة، وربما يستمر إغلاقه خلال الفترة القادمة".
يأتي هذا رغم تصريحات صحافية نسبت إلى مصادر مصرية رفيعة المستوى وقريبة من صناعة القرار السياسي بأن "علاقة مصر بحركة حماس جيدة، وأن هناك تواصلا بين القاهرة وقيادات الحركة في الداخل والخارج". وأضافت المصادر أن "مصر لم توجه أي اتهام لحركة حماس بتفجيرات سيناء، وإنما وجهت مصر الاتهام لعناصر متشددة في قطاع غزة، تسللت عبر الأنفاق لتنفيذ أعمال إرهابية، ووقع اللوم فقط على حركة حماس لعدم سيطرتها على هذه العناصر".
في المقابل، أكد جمال الشوبكي، سفير فلسطين في القاهرة لـ"العربي الجديد": أن هناك وعوداً من السلطات المصرية بفتح معبر رفح قريباً، ولكن لم يتم تحديد اليوم أو الوقت، قائلا "يوجد تواصل بين السلطة الفلسطينية في رام الله والسلطات المصرية من أجل فتح المعبر".
وحول الظروف الصعبة التي يعيشها العالقون في العريش، دون أن توفد السفارة مندوباً لمتابعة أحوالهم وتسهيل إقامتهم حتى فتح المعبر، قال السفير الشوبكي إن الهلال الأحمر الفلسطيني هو المخول بتقديم الدعم لهؤلاء العالقين.
فنادق مصرية متضامنة
بعض الفنادق الصغيرة التي تعود لمواطنين مصريين من أصل فلسطيني، رفضت إدارتها إخلاء النزلاء بها من العالقين الفلسطينيين، حسب محمد مجدلاوي، صاحب فندق القدس في العريش.
يقول مجدلاوي لـ"العربي الجديد": "هؤلاء هم أهلنا، كنا نحصل منهم على أجر رمزي لدفع رواتب العمال، ولكن بعد أن نفدت نقودهم، رفضنا أن يخرجوا إلى الشوارع، ولم نتخل عنهم؛ لكونهم يعيشون ظروفا استثنائية صعبة، ونأمل أن تستجيب السلطات المصرية لمناشداتهم وتفتح المعبر، ليعودوا إلى ديارهم في غزة".
عدد من رموز عائلات العريش، توجهوا إلى العالقين الفلسطينيين ممن نفدت أموالهم، ونقلوهم للإقامة في بيوتهم ودواوينهم، رافضين التخلي عنهم. الشيخ يحيى الغول من رموز قبيلة الفواخرية في العريش، واحد ممن هبّوا لنجدة العالقين الفلسطينيين ونقلهم للإقامة في ديوانه الخاص بمنطقة شارع أسيوط.
يقول الغول لـ"العربي الجديد": "إذا كانت السلطات الفلسطينية تخلت عن دورها الوطني وتركت رعاياها يبيتون في العراء من دون أن تسأل عنهم، ولم تستجب السلطات المصرية لمناشدتهم بفتح المعبر، فنحن هنا أهلهم، فتحنا لهم قلوبنا وبيوتنا ليقيموا بيننا معززين مكرمين، إلى أن يفتح المعبر أبوابه ويعودوا إلى ديارهم". ويتفق الحاج سامي الكاشف من رموز عائلات العريش مع الرأي السابق، قائلا "إن المراهنة دائما تكون على الشعوب وليس على الأنظمة العربية التي تتخلى عن شعوبها وقت الأزمات، ونحن لن نتخلى عن أشقائنا وأهلنا من أبناء غزة.