20 عامًا على وفاة كوبريك: سيرة المهزومين

17 مايو 2019
جاك نيكلسون: عبقرية كوبريك (فيسبوك)
+ الخط -
20 عامًا مرّت على رحيل ستانلي كوبريك (1928 ـ 1999)، و62 عامًا على أول أشْهَر أفلامه، "دروب المجد" (1957). يمرّ الزمن، ولا تشيخ أفلامه. كاميراه تؤرِّخ زمنًا طويلاً، وتُصوِّر تاريخَ المهزومين. المناسبة تستدعي تتبّعًا لأفلامه، بناء على الزمن التاريخي الذي تناولته، لا على زمن إنجازها. 

يعود "سبارتاكوس" (1960)، إلى ما قبل ولادة المسيح. يعرض كيف كسرت ثورة العبيد صولجان الإمبراطورية الرومانية. بعد لحظة النصر، فعل العبيد بأسيادهم السابقين ما فعلوه بهم. أرغموهم على قتل بعضهم البعض. غرس سبارتاكوس (كيرك دوغلاس) سكّينه في عاصمة الكون حينها، لكن الفيلم انتهى والبطل مصلوبٌ كالمسيح، ومريمته تُقبّل قدميه. أحداث "باري لندن" (1975)، تعود إلى منتصف القرن الـ18. لم يترك الفيلم أثرًا كبيرًا، لكنه "فيلم مَعْلَمة" لمدراء التصوير، لأن كوبريك استحدث طرقًا للتصوير غير مسبوقة، كي يلعب بالإضاءة النابعة من قلب المشهد.


انتقلت أحداث "دروب المجد" (1957)، إلى الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918). يكفي أنه دَرْسٌ في اللقطات المشهدية المتواصلة (Plan Sequence). لقطات لا يجرؤ عليها إلّا المخرجون الكبار. منذ اللقطة الأولى، رتّب كوبريك وقائع تتقدّم الكاميرا لالتهامها بالتتابع، في "ترافلينغ" طويل إلى الأمام. في مشهد الخندق، يتكرّر الأمر نفسه: "ترافلينغ" إلى الخلف، لرصد تقدّم العقيد داكس (كيرك دوغلاس) لتفقّد رجاله، والوقوف على درب الذلّ الذي مرّ فيه الجيش الفرنسي في تلك الحرب.

يبدو أن كوبريك شاهد لوحات الرسّام الألماني أوتو ديكس (1891 ـ 1969)، فوظّفها في الفيلم. ليست صدفة تشابه اسمي العقيد والرسّام الذي كان قناصًا، يُسدّد على جنود الحلفاء، ومنهم مغاربة، الذين تساقطوا أمامه في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). رسم ديكس بشاعة القتل، كجماجم مقسومة، لم يبق منها إلا نصف الفك العلوي.

في "لوليتا" (1962)، هناك أرملة تؤجّر بيتها. لها ابنة مراهقة تُدعى لوليتا، هي طُعم تجذب به عشّاقًا لها. ذات مرة، استأجر كهلٌ المنزلَ. بالغ في المساومة. أدخلته الأرملة إلى حديقة بيتها، وعندما رأى المُراهِقة الفاتنة، غَيّر رأيه. درس "لوليتا" متمثِّل بأنّ الحب في زمن الشيخوخة ذلّ. النصف الثاني منه استعراض بصري للذلّ، الذي يحاول أن يبدو متعةً. لا متعة في نكاح القاصر.


مع Full Metal Jacket (1987)، تنتقل الأحداث إلى مطلع سبعينيات القرن الفائت، وتتناول الحرب مجدّدًا، باعتبارها النموذج الأعلى للشرّ البشري. فيه، يردّ الأميركيون على رصاصة فيتنامية واحدة بألف. تدريب الجنود يُشبه إهانات تلقّاها كانديد الغبي في رواية فولتير (1694 ـ 1778)، بالعنوان نفسه (1759). محاولات إذلال تولِّد رد فعل عنيف، تسبَّب في موت الشخصية الرئيسية. بعد 40 دقيقة، انتقل الجنود من قاعدة التدريب في بلدهم إلى ميدان الحرب الفيتنامية. انتقالٌ مكاني يوحي كأن فيلمًا جديدًا بدأ.


يمثّل الفيلم شبيبة مُكرهة على التجنيد، بدءًا من حلق الشعر. بينما يمثّل بطل "البرتقالة الآليّة" (1971)، سوداوية شباب السبعينيات الفائتة. ألِكس (مالكولم ماكدويل)، عنيفٌ جدًا. يدفع من جسده ثمن أخطاء الماضي، ويخضع للتدجين. حين أقنعه الوزير بالوقوف إلى جانبه، كدليل على نجاح التدجين، يتصرّف ألِكس بحكمة، ويُصغي بأدب. لكن الطريقة الساخرة في فتح فمه، أثناء تناوله الطعام، تنسف ما سبق. في النصف الثاني من الفيلم، أدرك ألِكس أن عليه تصنّع البلاهة، ليعيش بسلام، وليأكل مجانًا من دون أن يعمل.

في "الساطع" (The Shining)، المُنجز عام 1980، يعتبر جاك تُورّانس (جاك نيكلسن)، أن طفلَه سبب فشله الأدبي. يظهر السببان الحقيقيان للأزمة تدريجيًا: الأول، وضعه الاقتصادي، الفارض عليه قبول عمل صعب؛ والثاني، عقمه الأدبي، إذْ جفّت موهبته، ولم يعد قادرًا على الكتابة. اختار مكانًا معزولاً، لعلّه يتمكّن من الكتابة، كأنّ المشكلة هي المكان. مع هذا، فهو، في المكان الجديد، كتب جملة واحدة في 500 صفحة. عند اكتشافها ما كَتَبه، أدركتْ الزوجة عمق أزمته، وخطره عليها وعلى الطفل. صنع كوبريك توترًا ورعبًا بـ3 ممثلين في مكان قفر، نقطة قوّته أنه يبدو كمتاهة.

في "عيون مغلقة على اتساعها" (1999)، تناول أزمة الأسرة المعاصرة. زوجة طبيب (نيكول كيدمان) منزعجة، لأن الطبيب (توم كروز) يرى مريضاته عاريات. تسأله عمّا إذا كانت صدورهنّ تغريه. يزعجها الشكّ، فبمن تثق؟ يسألها أحدهم: "أتظنين أنّ من ضمن جاذبيات الزواج جعل الخيانة ضرورية للطرفين؟". زوجة يحطِّمها الشك. تلتقي دبلوماسيًا هنغاريًا يُلقِّنها فلسفة أَفْيَد، ويلومها لأنها تزوّجت مع أنها جميلة، تستطيع الحصول على أي رجل تشتهيه. يؤكّد أن النساء كنّ يتزوّجن قديمًا للخلاص من بكاراتهنّ فقط، قبل عيش لحظات الحب الحقيقي. يبدو أن كيدمان طبَّقت النصيحة.

لم يعمل كوبريك على الماضي فقط، بل على استشراف المستقبل أيضًا، كما في "2001: أوديسا الفضاء" (1968). التقطت الكاميرا أوديسا الفضاء لا أوديسا الأرض. حقّق الفيلم سبقًا خياليًا مدوّيًا، يتعلّق باكتشاف الفضاء والإنسان الآلي. فيلمٌ سبق الحدث، وربط الماضي بالمستقبل، مع حركة قطع زمني عَبَرت 4 ملايين عام. أذكى لقطة مونتاج: أثناء اقتتال القردة على الطعام، يكتشف أحدهم السلاح الكاسر للتوازن، فيقتل الأعداء، ويسيطر. يرمي "العظمة ـ السلاح" في الفضاء، فتقطع الزمان والمكان، وتصير مركبة فضائية. هكذا، أخذ كوبريك مشاهدي الفيلم في لقطة "قطع" (ELIPSE) واحدة، تختزل تاريخ الإنسان وحلمه، الذي توقّع كوبريك أن يتحقّق، فتحقّق.

هناك أيضًا "نابليون"، غير المُنجز. عندما خطّط كوبريك مشروع فيلمٍ عنه، فتّش عن مصدر عظمة نابليون بونابرت، الذي لم تهتم به أفلام سابقة، مجّدت عبقريته الحربية، بينما اختار كوبريك سيرته من وجهة نظر خاصة به. لتوفير ركيزة لسيناريو يخدم وجهة النظر هذه، اتصل كوبريك بالروائي أنتوني بيرغس (1917 ـ 1993)، عام 1972، مُقترحًا عليه كتابة رواية عن نابليون، يستند إليها السيناريو (من سيرة ستانلي كوبريك، تأليف فنسنت لوبروتّو، ترجمة علام خضر، سلسلة الفن السابع، وزارة الثقافة السورية، 2005). يقول نابليون: "سرّ الانتصار في الحرب يكمن في متانة خطوط الإمداد والاتصالات". كان يعرف هذا، ورغم ذلك ورّطه الثلج في روسيا. جواب كوبريك في مشروع فيلمه، المتعلّق بتفسير الهزيمة: "لم يكن نابليون يعرف الثلج".

يتمثّل مدخل كوبريك إلى مشروعه بما يلي: ذات مرّة، صبّ الماء من إبريق، ولم يخرج منه. تجمّد الماء. كان نابليون متوسّطيًا، من جنوب فرنسا. لم يعرف الثلج، ولم يضعه في استراتيجيته. أثناء الهجوم على روسيا العنيدة، لم تكن جياد نابليون صالحة للسير على الثلج. لهذا، انهزم، فالثلج قطع طرق الإمدادات والعودة. للإشارة: يستخدم الروس جيادًا قصيرة، ذات قوائم فطحاء، للسير على الثلج. جياد قزمة، من نوع "بوني". هذا تفسير كوبريك لهزيمة الإمبراطور، الذي أُعجب المخرج به لأنه سياسي كبير، أطاح بالإقطاع في أوروبا.
المساهمون