ليس من السهل على المتابع للشأن التونسي أن يمسك نظرياً بما يقع في الشارع أياماً قبل 13 يناير/ كانون الثاني (جانفي) 2011، فما أدراك لو كان يوماً واحداً قبل فرار المخلوع.. الشعب التونسي نسف كل المقولات التي تحاول أن تجرّد الحراك، الذي انطلق يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، من وهج الغضب والاحتجاج، رافعاً شعاراته يوماً بعد يوم نحو أفق جديد لم يعهده الشارع التونسي والعربي عموماً.. الشعب يريد إسقاط النظام.. نعم هذه المرة الشعب يريد إسقاط النظام لا الأحزاب ولا التنظيمات. الشعب بنبرته، بصوته، بألفاظه يعبّر عن نفسه بلا وسائط، ولا حاجة لنخبة تترجم همّه وحلمه إلى نصوص تحليلية.
كل مدن تونس منتفضة.. الدم والشهداء هو القاسم والجامع المشترك بين الجنوب والشمال بين المدن والقرى.. أجهزة الدكتاتور تبحث عن ضالتها من قناة إلى قناة.. الجميع لم يدرك بعد أن إرادة الشعب في البحث عن مسافة أمان مع نخبه بدأت تشعّ.. صفاقس، قابس، سوسة، مدنين، بنزرت، القصرين.. والرائعة سيدي بوزيد، يكتبون السطر الأول من سفر العبور.. أحياء العاصمة العظيمة والمقاوِمة.. نعم المقاوِمة، تجاوزت الفعل إلى الفعل بوعي اللحظة المسؤولة، والمسؤولية أن تكون ابن اللحظة لا تابعاً لها.. هذا نسيج الوعي المتأتي من رحم الهمّ والظلم والقهر.
الناس في الشوارع، الكل قائد والوجهة واحدة، حالة انسياب مذهلة وسوريالية مع الحرية.. نعم يمكن أن نغيّر.. يمكن أن نثور.. إننا نثور.. و"اتجمّعوا العشاق" في ساحات الجامعات والمعاهد.. أمام النقابات.. وبين العاشق والعاشق شهيد.. قبل يوم، وفي يوم 12 جانفي، قدمت صفاقس شهيدها الأول وخرجت في أكبر تظاهرة في تاريخ تونس، أكثر من 70 ألف متظاهر في مسيرة يقول الكثيرون إنها هي من أسقطت بن علي لأنها جرّأت الناس على الـ"لا". ويومها أُحرق المقر الرئيسي لحزب بن علي في المحافظة، وهو أكبر مقر له بعد المقر المركزي في العاصمة.. وفي المساء، كانت ضاحية الكرم والتضامن وبقية أحياء "الخبز الحافي" مع موعد الزغاريد وهي تزف الشهيد تلو الشهيد.. وكأن كل شيء يقدّر حتى يكون 13 جانفي فارقاً.. وكان.
حالة القبول الشعبي لمقولة الكرامة والعدالة والحرية، صدمت بطش الدولة.. الرفض المطلق للنظام بكل تلويناته الفردانية والجمعية كشفت أن شعب تونس لم يعد المستبله، وأن المعادلة هي نكون أو نكون.. الموت أصبح حالة جمالية.. لا نستحي من الدموع، فهي رذاذ المحبين.. الشوارع لا تحتمل إلا اثنين الأحرار وأعداؤهم.. هي حالة الفرز الأخير وهو أروع ما جسّده يوم 13 جانفي.. الشعب أدرك أنه حر ومن صلب حرائر وأحرار.. عملية الفرز قامت على هذا الأساس.. "الحرية".
يوم 13 جانفي أسقط العديد من الأقنعة.. نخبة العهر الفكري والسياسي التي تجمعت في منابر التلفزيون تستجدي لها كانت على الهامش تماماً.. مع أن الجميل أن زنازين الداخلية يومها كانت تضم مناضلين من اليمين واليسار، لعلها كانت "نهاية رجل شجاع"، وأقصد هنا الصف النضالي الذي قدمه حراك 18 أكتوبر/ تشرين الأول.
13 جانفي والبيان الأول للثورة المضادة عندما قال المخلوع في ذلك المساء "فهمتكم.. وغلطوني"، وكان رد كل أحرار تونس "نحن فهمنا أولا ولم نغالط ".. كل تونس تهتز ليلتها.. الشعب يريد إسقاط النظام.. والشعب يزفّ ليلتها جمعاً من خيرة شباب تونس في موسم الهجرة إلى الحرية.. الحرية التي بدأت طقوس الولاء الأولى لها حين يوم.. 13 جانفي 2011.
*تونس