1
خريف 1976، سجن حماة المدني، في ساحة التنفس. كان الشاب العشريني يجلس القرفصاء وحيدا في الشمس، ساندا ظهره إلى الجدار، وكان السجناء يمرون من أمامه دون أن يتوقف أحد منهم ليتحدث معه. كانت جريمته غير مقبولة حتى وهو بين قتلة ولصوص ومغتصبي نساء وأطفال، وما فعله غير مبرر بنظر كل السجناء القضائيين. أما في أوساط العشرين سجينا سياسيا، وقد كنت أحدهم وأصغرهم سنا، فإنه يستحق "الخصي" في أحسن الأحوال.
كان السجناء يتداولون قصة اغتصابه لفتاة ميتة، كانت من جميلات إحدى القرى في ريف حماة الشمالي، قبل موتها. فقررت سماع القصة منه، وليس الاكتفاء بالمرويات المتداولة على الألسن، التي تلحقها الإضافات مع كل راوية.
كان قد مضى على وجوده في السجن سنة ونصف، ولكنه ما زال منبوذا. جلست بقربه وقدمت نفسي له. قال: أهلا وسهلا، وصمت. بعد ثلاثة أيام، وثلاث جلسات قرب الجدار، قال، ونظراته هائمة في مكان ما: كانت أجمل صبية في القرية، كل الشباب حاولوا لفت انتباهها دون جدوى، وكنت أحدهم. في صباح ذلك اليوم كان علي الذهاب إلى مدينة حماة لشراء بعض العدد الزراعية لوالدي، وعندما انتهيت، وجدت أن الوقت يسمح لي بالذهاب إلى السينما، ومشاهدة فيلم "أبي فوق الشجرة"، وكان كله "بوس" فأثارني إثارة كبيرة، وعندما وصلت إلى القرية مساء، كان الناس يتحدثون عن وفاة الصبية "ع"، وكانت صدمة قوية لي، وخاصة أنني كنت أعيش معها، بعد الفيلم، حلم يقظة، امتد منذ لحظة خروجي من السينما حتى وصلت القرية. لا أذكر شيئا بعد ذلك، فقد استيقظت على الضرب والألم الذي تسببه عصي الناس على ظهري ورأسي. كان الناس يحاولون رفعي عن جسد الفتاة، وكنت متمسكا بها حتى الموت. كنت، كما قال الشهود في المحكمة، قد نبشت القبر ليلا، وأخرجت جسد الصبية، ومارست الجنس معها أكثر من مرة، فحكم علي القاضي بثلاث سنوات سجنا لانتهاك حرمة الموت ونبش القبر. ما خفف الحكم، كما قال القاضي، إنه كان ينقصني بضعة أشهر كي أبلغ الثامنة عشرة من عمري. سألته إذا كان نادما، قال: ما زلت غير مصدق أنها ماتت، كان جسدها حارا، وتمر بي لحظات أشعر أنها كانت حية، وقد تعلقت بي أثناء محاولة الناس رفعي عنها. كان أبي حينها مع الناس، ولم يكن "فوق الشجرة"!
2
التقيته في مونتريال، وكان في حدود الأربعين من عمره، كان يعمل في المطاعم، ويكافح ليل نهار من أجل تعديل شهادته. دعاني أحد الأيام إلى مشاهدة رقص النساء العراة، وبعد أن خرجنا وجلسنا في أحد المقاهي نتناول فنجانا من القهوة، قال متذكرا: كنت في بداية الثمانينيات أقضي خدمتي الإلزامية كضابط مجند في مستوصف للمخابرات العسكرية، تعرفت على فتاة واستطعت إقناعها بمرافقتي إلى بيت أحد الأصدقاء في القصاع، فجأة قُرع الباب بعنف، فارتديت بسرعة ثيابي وذهبت لفتح الباب، كانت دورية للمخابرات بالسلاح الكامل، وكان السوريون قد اعتادوا على رؤية عناصر الأمن تقتحم البيوت، في الليل والنهار، طلبوا هويتي، فأسرعت بتقديمها لهم، وكلي خوف أن يدخلوا الشقة فيجدوا الفتاة، "ونكون بشيء ونصبح بشيء آخر"، وعندما عرفوا أنني ضابط في المخابرات، خففوا من عدوانيتهم، ولكن بقيت نظرات الاستصغار في عيونهم، ربما بسبب اسمي "المسيحي"، أو ربما بسبب لهجتي التي تدل على منطقة مولدي الأصلي، سألني أحدهم اذا كنت قد رأيت أحدا يدخل البناية، فهم يفتشون عن إرهابيين مطلوبين، وعندما قلت: إنني لم أرَ أحدا، غادروا وهم ينظرون إلي بشك. كنت قد فقدت نصف وزني من الخوف الذي لا مبرر له بالنسبة لشخص في المخابرات، وقررت لحظتها الهجرة، بمجرد انتهاء خدمتي الإلزامية.
التقيته بعد الثورة، وكنت أفترض أنه سيكون سعيدا بها، ولكن اكتشفت أن الخوف ما زال يعشش في عقله، ولكن هذه المرة من "الإسلاميين" وليس من النظام الاستبدادي المخابراتي. كان بعبع "الإخوان" الذي زرعه "حافظ الأسد" في عقول السوريين ما زال يعمل بكل مهارة، ملتهما كل ما هو إيجابي في حياتهم المعاصرة وفي تاريخهم.
3
من عاداتي الإسطنبولية "المستحدثة" الذهاب إلى المقهى للقراءة والكتابة، في منطقة عثمان بيه، هربا من "القبر المفروش" الذي أسكنه. كنت قد اخترت زاوية تمنحني نوعا من الاستقلالية، وتبقي شاشة كمبيوتري بعيدة عن أعين الفضوليين. أحد الأيام جاء "ختيار" في عمري تقريبا، مع سيدة في منتصف الخمسينيات من عمرها، كان جمالها لا يزال يقاوم الزمن، وخاصة جمال الوجه والابتسامة الرائعة التي تنقل المحبة إلى الآخرين. جلسا في الزاوية المقابلة لزاويتي، وبدأا عزفا موسيقيا مزدوجا، "قرار من أحدهما وجواب من الآخر". كانت الأصابع ترافق النظرات، فأينما يقف النظر كانت الأصابع تتابع ارتشاف الأحاسيس. كانت أصابع المرأة تتجول على الوجه المغضن لرفيقها، فترد شفتا الختيار بتقبيل وجه المرأة، ولمس خدودها الموردة الحمراء، انفعالا أو خجلا. يقترب الجسدان من بعضهما ويبتعدان، ثم يعودان للاقتراب والابتعاد وكأنهما في حالة من المد والجزر غير قادرين على التحكم بها.
استمر هذا الغزل اللطيف على مدى ثلاثة أيام، ثم غابا نهائيا، تاركا غيابهما حسرة في قلبي، وأسئلة كثيرة عن الحب الذي ينمو في زمن الاستبداد الاجتماعي، فيدفع الشاب إلى ارتكاب الجريمة، في الوقت الذي كان يقصد به ممارسة الحب، كما في مثال السجين. أو الحب الذي يحاول العيش في شقوق جدران زنزانة الاستبداد السياسي، كما في مثال ضابط المخابرات "الأقلوياتي"، الذي لم يستطع عقله الطائفي حمايته من مستبده الأقلوي. وفي الحالتين كان مصير الحب الموت أو الاختناق لنقص الأوكسجين.
الحالة الصحية الوحيدة، هي مثال العجوز والسيدة الخمسينية التركيين، فالحرية الاجتماعية المحمية بالقوانين، أتاحت للحب أن يبرعم على غصن شبه جاف، وقد يورق ويزهر.
الحرية هي المعادل الموضوعي لنمو الإنسان وأحاسيسه وفكره، وتقدمه على طريق الإبداع.
خريف 1976، سجن حماة المدني، في ساحة التنفس. كان الشاب العشريني يجلس القرفصاء وحيدا في الشمس، ساندا ظهره إلى الجدار، وكان السجناء يمرون من أمامه دون أن يتوقف أحد منهم ليتحدث معه. كانت جريمته غير مقبولة حتى وهو بين قتلة ولصوص ومغتصبي نساء وأطفال، وما فعله غير مبرر بنظر كل السجناء القضائيين. أما في أوساط العشرين سجينا سياسيا، وقد كنت أحدهم وأصغرهم سنا، فإنه يستحق "الخصي" في أحسن الأحوال.
كان السجناء يتداولون قصة اغتصابه لفتاة ميتة، كانت من جميلات إحدى القرى في ريف حماة الشمالي، قبل موتها. فقررت سماع القصة منه، وليس الاكتفاء بالمرويات المتداولة على الألسن، التي تلحقها الإضافات مع كل راوية.
كان قد مضى على وجوده في السجن سنة ونصف، ولكنه ما زال منبوذا. جلست بقربه وقدمت نفسي له. قال: أهلا وسهلا، وصمت. بعد ثلاثة أيام، وثلاث جلسات قرب الجدار، قال، ونظراته هائمة في مكان ما: كانت أجمل صبية في القرية، كل الشباب حاولوا لفت انتباهها دون جدوى، وكنت أحدهم. في صباح ذلك اليوم كان علي الذهاب إلى مدينة حماة لشراء بعض العدد الزراعية لوالدي، وعندما انتهيت، وجدت أن الوقت يسمح لي بالذهاب إلى السينما، ومشاهدة فيلم "أبي فوق الشجرة"، وكان كله "بوس" فأثارني إثارة كبيرة، وعندما وصلت إلى القرية مساء، كان الناس يتحدثون عن وفاة الصبية "ع"، وكانت صدمة قوية لي، وخاصة أنني كنت أعيش معها، بعد الفيلم، حلم يقظة، امتد منذ لحظة خروجي من السينما حتى وصلت القرية. لا أذكر شيئا بعد ذلك، فقد استيقظت على الضرب والألم الذي تسببه عصي الناس على ظهري ورأسي. كان الناس يحاولون رفعي عن جسد الفتاة، وكنت متمسكا بها حتى الموت. كنت، كما قال الشهود في المحكمة، قد نبشت القبر ليلا، وأخرجت جسد الصبية، ومارست الجنس معها أكثر من مرة، فحكم علي القاضي بثلاث سنوات سجنا لانتهاك حرمة الموت ونبش القبر. ما خفف الحكم، كما قال القاضي، إنه كان ينقصني بضعة أشهر كي أبلغ الثامنة عشرة من عمري. سألته إذا كان نادما، قال: ما زلت غير مصدق أنها ماتت، كان جسدها حارا، وتمر بي لحظات أشعر أنها كانت حية، وقد تعلقت بي أثناء محاولة الناس رفعي عنها. كان أبي حينها مع الناس، ولم يكن "فوق الشجرة"!
2
التقيته في مونتريال، وكان في حدود الأربعين من عمره، كان يعمل في المطاعم، ويكافح ليل نهار من أجل تعديل شهادته. دعاني أحد الأيام إلى مشاهدة رقص النساء العراة، وبعد أن خرجنا وجلسنا في أحد المقاهي نتناول فنجانا من القهوة، قال متذكرا: كنت في بداية الثمانينيات أقضي خدمتي الإلزامية كضابط مجند في مستوصف للمخابرات العسكرية، تعرفت على فتاة واستطعت إقناعها بمرافقتي إلى بيت أحد الأصدقاء في القصاع، فجأة قُرع الباب بعنف، فارتديت بسرعة ثيابي وذهبت لفتح الباب، كانت دورية للمخابرات بالسلاح الكامل، وكان السوريون قد اعتادوا على رؤية عناصر الأمن تقتحم البيوت، في الليل والنهار، طلبوا هويتي، فأسرعت بتقديمها لهم، وكلي خوف أن يدخلوا الشقة فيجدوا الفتاة، "ونكون بشيء ونصبح بشيء آخر"، وعندما عرفوا أنني ضابط في المخابرات، خففوا من عدوانيتهم، ولكن بقيت نظرات الاستصغار في عيونهم، ربما بسبب اسمي "المسيحي"، أو ربما بسبب لهجتي التي تدل على منطقة مولدي الأصلي، سألني أحدهم اذا كنت قد رأيت أحدا يدخل البناية، فهم يفتشون عن إرهابيين مطلوبين، وعندما قلت: إنني لم أرَ أحدا، غادروا وهم ينظرون إلي بشك. كنت قد فقدت نصف وزني من الخوف الذي لا مبرر له بالنسبة لشخص في المخابرات، وقررت لحظتها الهجرة، بمجرد انتهاء خدمتي الإلزامية.
التقيته بعد الثورة، وكنت أفترض أنه سيكون سعيدا بها، ولكن اكتشفت أن الخوف ما زال يعشش في عقله، ولكن هذه المرة من "الإسلاميين" وليس من النظام الاستبدادي المخابراتي. كان بعبع "الإخوان" الذي زرعه "حافظ الأسد" في عقول السوريين ما زال يعمل بكل مهارة، ملتهما كل ما هو إيجابي في حياتهم المعاصرة وفي تاريخهم.
3
من عاداتي الإسطنبولية "المستحدثة" الذهاب إلى المقهى للقراءة والكتابة، في منطقة عثمان بيه، هربا من "القبر المفروش" الذي أسكنه. كنت قد اخترت زاوية تمنحني نوعا من الاستقلالية، وتبقي شاشة كمبيوتري بعيدة عن أعين الفضوليين. أحد الأيام جاء "ختيار" في عمري تقريبا، مع سيدة في منتصف الخمسينيات من عمرها، كان جمالها لا يزال يقاوم الزمن، وخاصة جمال الوجه والابتسامة الرائعة التي تنقل المحبة إلى الآخرين. جلسا في الزاوية المقابلة لزاويتي، وبدأا عزفا موسيقيا مزدوجا، "قرار من أحدهما وجواب من الآخر". كانت الأصابع ترافق النظرات، فأينما يقف النظر كانت الأصابع تتابع ارتشاف الأحاسيس. كانت أصابع المرأة تتجول على الوجه المغضن لرفيقها، فترد شفتا الختيار بتقبيل وجه المرأة، ولمس خدودها الموردة الحمراء، انفعالا أو خجلا. يقترب الجسدان من بعضهما ويبتعدان، ثم يعودان للاقتراب والابتعاد وكأنهما في حالة من المد والجزر غير قادرين على التحكم بها.
استمر هذا الغزل اللطيف على مدى ثلاثة أيام، ثم غابا نهائيا، تاركا غيابهما حسرة في قلبي، وأسئلة كثيرة عن الحب الذي ينمو في زمن الاستبداد الاجتماعي، فيدفع الشاب إلى ارتكاب الجريمة، في الوقت الذي كان يقصد به ممارسة الحب، كما في مثال السجين. أو الحب الذي يحاول العيش في شقوق جدران زنزانة الاستبداد السياسي، كما في مثال ضابط المخابرات "الأقلوياتي"، الذي لم يستطع عقله الطائفي حمايته من مستبده الأقلوي. وفي الحالتين كان مصير الحب الموت أو الاختناق لنقص الأوكسجين.
الحالة الصحية الوحيدة، هي مثال العجوز والسيدة الخمسينية التركيين، فالحرية الاجتماعية المحمية بالقوانين، أتاحت للحب أن يبرعم على غصن شبه جاف، وقد يورق ويزهر.
الحرية هي المعادل الموضوعي لنمو الإنسان وأحاسيسه وفكره، وتقدمه على طريق الإبداع.