يوم دُفن "جنيف الأوكراني" في صقيع دونيتسك

22 ابريل 2014
يعمل الانفصاليون لتنظيم استفتاء الانفصال في 11 مايو (GETTY)
+ الخط -

الميدان شيء، وقاعات المؤتمرات شيء آخر تماماً. لا يؤثّر المجتمعون في جنيف على الواقع بشيء في شرق أوكرانيا، كما يبدو حتى الآن. الورق للورق والأرض للأقوى، وما كُتب في اتفاق من سبعة مقاطع في النهار، محته اشتباكات "غامضة" في سلافيانسك، في ساعات الفجر الأولى من يوم الأحد الماضي.

لم يُبصر اتفاق جنيف النور بعد، أقلّه حتى صباح اليوم الثلاثاء. لم يغادر الانفصاليون الموالون لروسيا المباني الرسمية في دونيتسك، ولا يزالون يعملون بدأب، لتنظيم استفتائهم الموعود الذي يقررون فيه الانفصال عن أوكرانيا أو عدمه، في 11 مايو/أيار. أدركت السلطات المؤقتة في كييف خطورة النفوذ الروسي، وتغلغله في "دفرسوار"، يبدأ من لوهانسك في أقصى الشرق، وصولاً الى أوديسا في أقصى الغرب، آخذاً بدربه مقاطعات خاركيف، ودونيتسك، ودنيبروبتروفسك، وزابوريزيا، وخيرسون، وميكولاييف، أي المقاطعات الثماني التي تحرّكت غداة استفتاء شبه جزيرة القرم وانفصالها عن أوكرانيا وانضمامها الى روسيا.

اقتنعت كييف بالفدرالية، ريثما يتمّ رفع مستوى تمثيل حلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا، وريثما يتمكن الجيش الأوكراني من الحصول على العدّة والعتاد والتدريب اللازم، وعلى ما يبدو فإن الأمر لن يحصل قبل "ابتلاع" موسكو تلك المقاطعات بصورة غير مباشرة. وحتى الآن، يميل الوقت لصالح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.

في المقابل، فإن كييف مشغولة بانتخاباتها الرئاسية، المفترض أن تجري في 25 مايو/أيار المقبل، والتي، من حيث المبدأ، لن تحمل جديداً، سوى أن رئيساً معارضاً لموسكو سيسكن في قصر ماريينسكي الرئاسي التاريخي، على ضفة نهر دنيبر. تبدو الشقراء يوليا تيموشينكو، جاهزة لخوض معركة جديدة ضد "امبراطور الشوكولا"، بيترو بوروشينكو، لكن أي معركة بينهما لن تؤدي سوى الى تمكين أحدهما من حكم قصر ماريينسكي، والمناطق الموالية له فقط، من دون القدرة على بسط السيطرة على الشرق المتمرد.

بالنسبة الى الشرق، يفضَّل الحصول على الاستقلال أو الحكم الذاتي أقلّه، على انتخاب رئيس لن يخرج من صفوفهم. يعتبر انفصاليو أوكرانيا، وخلفهم موسكو، أن ما حصل غداة الاطاحة بالرئيس المعزول فيكتور يانوكوفيتش، انقلاب، وما ينجم عن الانقلاب هو باطل. مع ذلك، لم يجد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مشكلة في الجلوس مع وزير الخارجية الأوكراني "الانقلابي"، دانيلو لوبكيفكسي، في جنيف، في اعتراف غير معلن بسلطات كييف.

همّ آخر يشغل البال في أروقة الغرب: الغاز. بدأ الروس جولة اتفاقيات دولية، انطلاقاً من إعفاء كوريا الشمالية من ديونها، تمهيداً لمدّ خط غاز في الشرق الى كوريا الجنوبية، عابراً أراضي بيونغ يانغ. سيؤثر الأمر على مفاوضات الدول الكبرى مع كوريا الشمالية لا شكّ، فالجوع قد يُسَدّ في الجار الشمالي، وقد يعزّز هذا الضخّ العلاقات الروسية – الصينية، ويدفعها الى التلاحم أكثر، في ظلّ التحالف في الملفين السوري والأوكراني على حدّ سواء. والشريك الصيني هو الثاني لناحية الاستيراد من موسكو (6.8 في المئة)، والأول في التصدير (16.6 في المئة).

ومع تركيا، يتساهل الروس في زيادة حجم ضخّ الغاز الى أنقرة، من 16 الى 19 مليار متر مكعّب سنوياً، عبر أنبوب "بلوستريم"، في مقابل تخفيض الأسعار. سيسمح الأمر لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب اردوغان، بنسيان الموضوع النفطي حتى انتهاء معركته الرئاسية في أغسطس/آب المقبل، وسيتيح لوزير خارجيته، أحمد داوود أوغلو، الانصراف الى بناء منظومة اقتصادية – عسكرية نموذجية في مدينته قونيا وضواحيها. ستسكت تركيا، ولن تتحرّك في اتجاه الغاز الكردي حتى إشعار آخر، وسيبقى ميناء جيهان أشبه بسيفاستوبول أخرى.

الغاز الجزائري، لن يفيد أوروبا، طالما أنّ شريك "سوناطراك" الحكومية الجزائرية، يبقى "غازبروم" الحكومية الروسية. الأوروبيون مقتنعون أيضاً بأن الحلّ لن يكون بمعزل عن روسيا، والغاز الصخري، الأميركي أو البريطاني، سيجعلهم أسرى غرب لا يُطمئن أيضاً. لذلك عارض مفوض شؤون الطاقة في الاتحاد الأوروبي، الألماني غانثر أوتينغر، قطع علاقات الغاز مع روسيا.

من جهتها، تدرك روسيا أن توسّعها لن يكون في صالحها على الأمد الطويل، في حال لم تؤمّن الموارد اللازمة لاستمرارية سياستها، وتحديداً لتأمين البدائل التي تعوّضها عن أي عقوبات. فتوسعّها الشرق آسيوي والتركي، لا يكفي للصمود المالي الداخلي لئلا تعود الأخطاء عينها التي أدّت الى انهيار الاتحاد السوفياتي. ومع أن البطالة لم تتجاوز الـ5.5 في المئة، بحسب الأرقام الرسمية، فإن ذلك لا يعني الطمأنينة متى أدركنا أنه في أواخر أيام الاتحاد السوفياتي، لم تكن البطالة تتجاوز 0.8 في المئة في 1992.

في خضمّ تلك المعطيات، يبدو اتفاق جنيف تفصيلاً، لا حلّاً نهائياً أو حتى مؤقتاً، وموسكو التي ترغب في تدعيم نفوذها بفدرالية أوكرانية، لا تريد التراجع عما وصلت اليه. لكن مشوارها مرتبط باستقرار أسعار الطاقة، وأي هبوط مفاجئ لها سيضرب الاقتصاد الروسي في الصميم، ويُصبح التوسّع مجرّد خطيئة كان يُمكن تلافيها.