يوم الدستور.. "قداسة" الديمقراطية والحريات في الدنمارك

11 يونيو 2016
فصل السلطات وحرية الصحافة مكفولتان (العربي الجديد)
+ الخط -
"الآن يمكنني النوم حين أرغب بذلك"؛ عبارة أطلقها الملك فريدريك السابع، حينما سمع نصيحة مستشاريه بالتخلي عن الحكم المطلق في الدنمارك والتحول إلى ملكية برلمانية ونظام ديمقراطي

أمام مبنى البرلمان الدنماركي ينتصب تمثال برونزي ضخم للملك فريدريك السابع، لا توجد حراسات عسكرية ولا أمنية تحيط بالتمثال القديم. ذلك الملك خلف الملك كريستيان الثامن في 1848، ومعه بدأت عملية إصلاح سياسي في البلاد. كانت مملكة الدنمارك في تلك الأوقات تحكم مناطق جغرافية واسعة في البلدان الإسكندنافية وشمال ألمانيا، لكنها داخليا كانت محكومة بسلطة ملكية مطلقة منذ 1660، إلى أن وصلتها نسائم الثورات في أوروبا.

على وقع الثورة الفرنسية وحروب نابليون ومن ثم الموجة الثورية التي اجتاحت أوروبا في أربعينيات القرن التاسع عشر، تولى الملك فردريك السابع حكم الدنمارك في عام 1848، خلفا لأبيه الملك كريستيان الثامن. وفهم الإبن أن التمسك بالحكم المطلق سيثير عليه الشعب، الذي كان يتململ مع تسلط طبقة معينة تحيط بالملك على سياسة واقتصاد البلاد. تابع الملك الجديد مسيرة إصلاح هادئة بمفاوضات بين الدستوريين والملكيين.

أنصت فريدريك السابع جيدا لنصائح مستشاريه ووزرائه بأن يجري تحويل السلطة إلى الشعب عبر أول دستور للبلاد، بعد مساومات كثيرة وكبيرة في البرلمان، فوقع عليه في الخامس من يونيو/حزيران 1849. وبذلك جرى تحويل البلاد إلى ملكية دستورية، ولم يحدث الأمر بين عشية وضحاها، فقد كان للشعب مطالب خلال حكم أبيه كريستيان الثامن، الذي حكم من 1839 إلى 1848، ففتح أمام الشعب حكما ذاتيا غير مركزي في البلديات. طالب كريستيان ابنه الذي سيرث العرش بالتخلي عن الحكم المطلق، وبعد أن وقع على الدستور قال فريدريك السابع جملته :"الآن يمكنني النوم حين أرغب بذلك".

لم يكن سوى لـ15 بالمئة من الشعب حق التصويت حين صار للشعب دستور، لكن جرت مراجعته مرات عدة بحيث خفض سن المصوتين والترشح إلى البرلمان. فقد كان يمنع الجنائيون والنساء ومدمنو الكحول والفقراء والرجال تحت الثلاثين من التصويت والخوض في السياسة. ولاحقا في 1915 منحت المرأة حق التصويت. وعدل الدستور في يونيو/حزيران 1953 تعديلا يسمح للنساء باعتلاء العرش وتغييرات كثيرة نحو المزيد من الحريات والديمقراطية.

استفاد الفلاحون من هذا الدستور وصار لهم حق التصويت، على عكس ما كان قائما في السابق من تقييد لحريات هؤلاء، بعد سنوات ألغيت الغرفة الثانية التي كانت تضم 66 عضوا (جلهم من الاقطاعيين والملاك والمتحكمين بالقرارات) واقتصر على برلمان يضم 179 عضوا (وهو الأمر عينه السائد حتى 2016).


ويحتفل الدنماركيون في الخامس من يونيو/حزيران من كل عام بما يشبه "اليوم الوطني" احتفاء بدستور 1849 إذ كافحوا لترسيخ أهم الحقوق الفردية والجماعية، ففي الصياغة الأولى في ذلك الزمن نص الدستور على حق التعبير كتابة وشفويا وحق الإيمان والمعتقد بحرية، وأيضا حرمة السكن وحق الملكية وبأن لا يجبر أحد على التخلي عن أملاكه بدون حكم قضائي مع تعويض كامل. ومنح الدستور المواطنين الذين لا يستطيعون تدبر معيشتهم حق المجتمع عليهم بتقديم مساعدة لهم ( وهو ما يسري حتى يومنا هذا) ووضع دستور 1849 اللبنة الأولى لمجانية التعليم للأطفال، وخدمة العلم الإجبارية.

إن الأحزاب السياسية وتشكيل الجمعيات الأهلية وحرية الصحافة والحريات العامة وفصل السلطات ودولة الرفاهية يعد تحولا يحتفي به الشعب ويفوق أي احتفال جماعي على صعيد كل البلاد نظرا لما يرى فيه الدنماركيون أساس حريات يقدسونها.

ووفقا لما يقوله البروفيسور سفيند أندرسن لـ" العربي الجديد": "لعبت الكنائس دور الوسيط بين الملك فريدريك والأحزاب والجمعيات التي كانت تطالب بدستور للبلاد ولذا نرى الكثير من الاحتفالات الشعبية تتم في الأديرة والأبرشيات في الغابات حيث كانت تتم المفاوضات". وعليه نرى الكثير من قادة الأحزاب السياسية يتوجهون دائما إلى تلك التجمعات الشعبية لإلقاء كلماتهم تأكيدا على أهمية الديمقراطية التي أنجزها دستور البلاد.

ومن هذا المنطلق ينظر الأغلبية باحترام إلى القصر الملكي باعتباره تحول إلى ملكية دستورية، ولا تتدخل الملكة مارغريتا الثانية في السياسة إلا من الناحية البروتوكولية في نظام برلماني يخضع فيه اختيار الوزراة لانتخابات شعبية للأحزاب وبحسب ما تحصل عليه الكتل تجري مفاوضات بين "الكتلة الزرقاء" (يمين الوسط) و "الكتلة الحمرا" (يسار ويسار الوسط) لتشكيل حكومة بناء على برامج مساومات. باتت المرأة تشكل حوالي 48 بالمئة من عدد أعضاء البرلمان ويحق لكل من بلغ الثامنة عشرة الترشح والتصويت. فصل السلطات وحرية الصحافة مكفولتان جنبا إلى جنب مع حقوق الإنسان وضمان تلك الحقوق تحت السقف الدستوري الذي بدأ في 1849.