يقين المساكين (1-2)

21 ابريل 2019
+ الخط -
أرمي مرارة اليوم وعبث الحياة وعبوسها عندما أختلس بعض سويعات الليل.. الإرهاق يلاحقني فأتوارى خلف ستار النوم الذي ما لبث وتمزق تلك الليلة التي ضجت فيها حارتنا، وأصدرت ألحان الفجر نشازا من صدى الأصوات المتبادلة، ما جعلني أتقلب بدون وعي لما يجري في حانات وأنحاء الحارة.

لم ألتفت لما حصل، واحتضنني النوم وضمّني في جعبته حتى أيقظتني دقة السابعة صباحا، للبدء في وصلة العمل الروتينية التي تنقلني من المستشفى إلى العيادة، حتى أتم حاضر اليوم بأمسه وأنا مُلقى على سريري أطالع الأماني، أرقب الفانوس السحري، عله يعطينى يوم راحة من هذه الوصلة المملة التي تلامسها متعة أهل الحي ممن يروحون بصبيتهم ليتم علاجهم ثم يتبعون فرحتهم بالشفاء بهمسات من الدعاء، لأن الله رفع عنهم الشقاوة والبلاء، وذلك طبعا بعدما يملسون على مقام سيدنا المنجويشي، لعل البركة تصيبهم.. هذا المقام المنصوب على حافة حارتنا، تذهب إليه البنات أملا فى أن يرفع عنهن عادتهن ويعجل لهن النصيب، والنسوة ممن رزقن بالأنثى، يتضرعن كي يأتي الولد.


أنا الطبيب شكري عبد الرحمن.. مسني ضيق القوت ليرمي بي القدر للسكنى بين زنقات الدرب الأحمر حيث البيوت الباهتة والنفوس الخافتة، أعمل في المستشفى الحكومى صباحا للرزق الدنيوي الضئيل، أما عيادة بعد العصر فخصصتها لرزق الآخرة فالكشف قبل الدفع، والدفع على غير المعهود ليس بنقود الدنيا، لكن عبر دعوات وهمسات..

إذا كان "المعلم شحتة"، صاحب قهوة المنجويشى ظاهرا، وتاجر الحشيش خافيا، قد عرض علي العمل معه، وذلك بحكم أني طبيب، فأقوم بالتوعية وتوضيح الجانب الإيجابي للحشيش فى سلطنة المزاج وجعل الدنيا "عال العال"، كما يصف دوماً، إذ يقول: "لازم نشوف نص الكوباية المليان يا دكتور، ولا أنت يرضيك حالك كدا؟".

تزاحمت الأفكار، وفرضت حادثة البارحة نفسها، كونها أتعست منامي وأيقظت حالي، والسؤال يفرض نفسه على بالي بما جرى فى أصداء الحارة، فمن ذا الذي فرض على أهلها أن يصحوا ويباركوا بعودته بنبرات أحدها صادقة، وأُخرى متعجبة؟

تنافست عقارب الساعة حتى وصلت للثامنة، وبعد ما نزلت من البيت الأشبه ببقية بيوت حارتنا المائلة القوام، حيث يجبرني الطريق إلى المستشفى أن أمر من أمام قهوة "المعلم شحته"، وهو يأخذ بعض الأنفاس من النارجيلة ويتمدد بساقيه، معترضا طريق من راح وجاء، فيما صبي المعلم "شيخون" ارتسم أسى الأيام على جبينه.. وفيما ظلمة الليل اتخذت من وجهه طريقا كي تجعل بياض القمر ينفلت من وراء شفتيه وهو يجلس القرفصاء جوار معلمه يقلب الهواء على رماد النارجيلة.. يزف شيخون الخبر الموعود، ويعلن وصول الشيخ "طاهر الجيلي"، إلى الحارة ليلة أمس كما يصفه عن لسان شحتة المعلم، فيتبع قوله: "أشرقت الأنوار وأهلت البشائر بمولانا"..

فجأة يعتلي الزحام الحارة، فتخرج زوجة المعلم مزغردة، وتخرج نسوة أخريات من المشربيات يزغردن على صوت زوجة المعلم، وهن لا يدركن السبب، ولا لم كل تلك الغبطة؟!..

..يتبع
دلالات
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.