يطير الحمام... يهرب الحمام

15 فبراير 2016
ماذا تعني ذاكرة بلا دمشق؟ (فرانس برس)
+ الخط -
تتسمّر تلك الحمامة الوادعة أمام نافذتي.. تنقر ما تيسّر لها من فتات الخبز التي نثرتها على حافة الشباك، أتأمل وداعتها، فتحفر الصورة سرداباً عميقاً في الذاكرة.. في الوجدان..


"في دمشق.. تطير الحمامات.. خلف سياج الحرير" وترحل المخيلة نحو دمشق.. نحو شوارعها وأزقّتها.. رائحة الكتب في الحلبوني وواجهات المكتبات.. محطة الحجاز والمقهى الشعبي الذي لا يسوقك إليه إلا الحنين إلى الطقوس الدمشقية.. التكية السليمانية وقببها التي تجعلك تستحضر رغماً عنك، ذلك الصوفي القابع في قعر ذاتك..

أحبس أنفاس أطفالي، أدعوهم إلى التأمل في الحمامة الوادعة، وتركها تتناول طعامها بسلام.. في الحقيقة كنت أدعوهم إلى حبس أنفاس ذاكرتي عند هذا المشهد..

جولة صغيرة في الذاكرة، تجعلك تكتشف حجم الفاجعة التي تعيشها، ماذا تعني ذاكرة بلا دمشق؟ ماذا يعني أن تستحضر صورة المسجد الأموي، الأذان الجماعي الصادح من مئذنته؟ دون أن تتجول في العصرونية، وتتناول الشاي في مقهى النوفرة.. ذلك المقهى الشعبي البسيط، والمسنون الذين ينعشون ذاكرتهم، ويطربون لصوت النرد، وهو ينقر الطاولات الخشبية، في مبارزات هي خيارهم الأخير للتباهي، بعد زوال الصحة والعافية وعنفوان الشباب..

الزواريب والحجارة المرصوفة داخلها.. "سقّاطات" الأبواب المشرعة للحياة.. والفناءات التي تتعالى منها أصوات ضحكات الأطفال الذين يتراشقون بالماء، ويتسلّقون الأدراج التي تتكئ على جنباتها أصص نباتات الزينة.. وتعبق في أجوائها روائح الياسمين، والفل، والزنبق، والورد الجوري. وتتعالى على جدرانها أوراق اللبلاب، والمجنونة، وزهر العسل، فتمنح لحياة الدمشقيين لوناً أخضر، لا يفوقه إلا ربيع الغوطة.

تخفق الحمامة بجناحيها، ضاربة الزجاج.. محلّقةً بعيداً.. ويخفق الوجدان مع رفرفة جناحيها.. ليكشف كم أصبحنا بعيدين!

"يا طيرة طيري يا حمامة.. وانزلي في دمّر والهامة"
دمشق.. وأبو خليل القباني، الذي غادرها كرهاً لأنها رجمته، فقط لأن إبداعاته كانت أكبر من الرؤوس المتحجّرة، التي كانت تحاكم الفن باسم الله والدين..

حمام الأموي الذي يرفّ القلب مع رفرفة أجنحته.. ضحكات الأطفال الصاخبة وهم يشترون الحبوب ويبذرونها للحمام، فيلتقطها بمنقاره ويحلّق في سرب ليتوزع على سور الأموي، والأسوار القريبة..

دمّر والهامة، اللتان تغنّى بهما القباني.. وبردى الذي ينضح بالعنفوان والشباب في ربيع أيامه.. مشاتل الزهور على ضفافه المترامية على سفح قاسيون، وحكايا الحب المخبوءة في أعماق الربوة..

بردى.. وتلتهب الذاكرة جمراً.. تستحضر خيالات من تبقوا في البلد، وذكريات الأحلام الغافية على ضفافه.. خرير النهر وهو يشق طريقه مختالاً.. تنساب مياهه العذبة من ثغر الجبال التي تحتضن دمشق، وتضمها بين كفيها الخضراوين الحانيتين..

تعود الحمامة لتنقر النافذة.. لم تزل بعض الفتات منثورة على الحافة.. هي نقرات الشكر والعرفان إذن.. يضج طفلي الصغير.. ينتشي من جمال المشهد "ماما.. الشباك"!

أبتسم في وجهه وأنا أحاول أن أخفي دموعي.. لطالما انتظرت اللحظة التي سيكبر فيها أطفالي لأصطحبهم معي في رحلة إلى دمشق.. أروي لهم الحكايا عن تاريخها.. أتجول بهم في أسواق الحميدية، والبزورية... نتناول معاً "البوظة" عند "بكداش" الذي تحوّل إلى طقس دمشقي، لا للذة طعم البوظة، بل لأنه بات جزءاً من ذاكرتنا الدمشقية، سأريهم بوابة حمام نور الدين الشهيد.. سآخذهم ليزوروا قبر صلاح الدين الأيوبي، ويتجولوا في أروقة الجامع الأموي.. سوف.. وسوف..

تنقر الحمامة الزجاج ثانية.. وتنفتح سواقي الدموع على مصراعيها..
لم يعد بإمكاني سوى أن أحلم بهذه الطقوس.. بعد أن بات يفصلني عن دمشق ألف مجزرة ومجزرة.. أقرأ منشورات أصدقائي، الذين ما زالوا يتنفسون من رئة الربوة.. ويكحلون العيون بمرأى قاسيون.. ويغسلون أيديهم بمياه "الفيجة" الباردة، التي تثلج القلب ببرودتها.. فأرى أن دمشق تتسرّب من بين أصابعهم هم أيضاً..

هم الآخرون يتوقون إلى التسكّع في حاراتها دونما خوف من شظايا القذائف.. دون رهبة ذلك الوحش الذي قد يصطادهم عند أي حاجز..

هم الآخرون باتوا يهربون من مناظر الأطفال، الذين يلتحفون السماء على قارعة الطريق.. بعد أن اغتالت الطيارات أقصى أحلامهم في المبيت تحت سقف.. قرب المدفأة..

أحاول أن أسرّي عن نفسي.. أدعو أطفالي لزيار أنطاكيا القديمة.. لعلّي أعوّضهم عن حلم زيارة ذلك الفردوس الذي اسمه دمشق.. أكتشف بعدها أن لا أموي تتجمع أسراب الحمام مقابل أبوابه، وترفّ مقتلعة مع أجنحتها القلوب.. وأن دمشق التي أودعها الله في قلوبنا.. تبقى حلم يقظة يراود خيالاتك..

تعود الحمامة في الصباح التالي.. تنقر الحبّ وتمضي.. تمكث برهة.. تراقب الأطفال، وهم يلعبون.. أشعر أن دمعة تنساب من عيونها وهي ترقب عدم اكتراثهم لقدومها.. أما أنا فلم يعد يعنيني مشهد الحمام، فالبال منصرف إلى صور جثث الأطفال هناك.. قرب دمشق.. وصور أشلاء الأطفال تصادر من الذاكرة مشهد أجنحة الحمام.

(سورية)
دلالات
المساهمون