ويتجسّد غيابك

27 فبراير 2019
مقطع من عمل لـ سعد بن شفاج/ المغرب
+ الخط -

توغّلتُ في عتمةِ دهليز ضيّق كئيب. كخيطٍ من خيال مرهف بظهر مستقيم ثقيل، لم أترك غير اللّحن الحاد لكعب حذائي، رنين صافٍ موحد. وبعنادٍ كنت في صراع مع هذا الممر اللّامتناهي العنيد. وجهي يبرز أكثر وأكثر وسط هذه العتمة، أو بالأحرى خطوط وجهي تتحدّى الليل وأنواره الاصطناعية بدءا بعينيّ البنيتين الواسعتين، اللتين يحيطهما خط أسود وأنفي الأخطم اللامع وخداي الشاحبان الغائران، ثم ثغري الشهي الذي كان جافاً، مفتوحاً على حلم قديم، أسناني البيضاء اللامعة التي أقسو عليها كل الصباحات وكل المساءات، وفي النهاية عنقي موقوص منكّب على ثدييّ الكاعبين اللذين على قولك كانا أكثر نعومة من القطن ومن الكريم ومن قشدة مخفوق الحليب بفجر ساخن.

فستاني الطويل الأسود مفتوح الصدر كان مكوياً بعناية تامة، دخولي إلى الصالون تجلّى فجأة. لا أحد استغرب مظهر صرامتي ووقاري، المتكلف تقريباً. أنا التي كنت أجيد الانطلاق مع الأشجار والرياح والتدفق مع مياه الأنهار والتماهي مع تجاعيدها، أخيرا شعرت بانفراج أساريري، توقفت لبرهة وفكرت في الحوار الأخير بيننا:

- ماذا تفعلين هنا؟ عليك أن تبتعدي عن هذا المكان! العلاج الكيميائي، المستشفى.. غادري كل هذه الأشياء!
- أريدك أنت.
- آخ، ولكن أنا انتهيت. جمالك ثمين يحتاج عشقاً في كل لحظة.
- إنه أنت من أريده، لماذا تدفعني إلى أحضان شخص غيرك؟
- الموت يلاحقني عزيزتي.
- هذا يعني أنك لن تبالي إذا صرت مع آخر؟
- الموت يرغمنا على سحق مشاعرنا، وإذابتها في حمض الأسيد أو رميها في فوهة بركان.
- أحبك. الموت لا يرعبني.
- إنك عنيدة... أحبك، مجنون بك.

همَست لي بهذه الكلمات وكأنك مفصول عن كل ما حولنا، غرفة المستشفى، محقن الوريد، كل العالم. لكن نغم "أحبك" يطرب في رأسي ويدك تضغط على بطني وتزيد من توتري. فجأة، صديقتي آنا، اقتحمت الغرفة، هرعت نحوي:

- عزيزتي!
أضاءت وجهي ابتسامة متألمة:
- آنا!
- تعالي بسرعة، كلهم في انتظارك!
آنا دائما تضخم الأمور! ففي الحقيقة، الذين كانوا في المجمع جد منشغلين بالرقص، بالثرثرة أو بالشرب.

في حياتي المنظمة، آنا كانت نوعا من الفوضى اللذيذة، وجهها بتقاسيمه الدقيقة المرهفة كان مضاء بعينين زرقتهما شفافة، تعبر عن دهشة لا محدودة، ومتوجاً بشعر ذهبي مموج. ضحكتها فريدة لم تكن تخفى على أحد، ضحكة كشلال عذب متمهل. جسدها النحيف يعطي انطباعا باستعداده للتهشم تحت وطأة بياضه. لكن في الواقع آنا كانت ذات طبيعة قوية.

لولاها، كانت ستسحقني الحشود يوم الدفن. الشمس تلفح بقوة. من حمرة الأرض علا غبار في الهواء، لا نسيم في الأفق. جمهور غفير يقتحم الأمكنة. مجهولون تدفقوا من كل صوب، لا نعرف كيف حلوا بهذا المكان النائي! أنت، هذا الرجل المكسور، الذي حرّك كل البلاد. هؤلاء الناس لا يعرفون شيئاً عن الوهج الذي يوحّد جسدي مع جسدك، لماذا جاؤوا للتسلل بينك وبيني، بين جلدك وبيني؟ إذاً، ما الذي أتوا لرؤيته؟ شم رائحة موتك؟ ما الذي يشعرون به بالضبط؟ أيّ طعم يمكن أن يكون للدموع التي ذرفها هؤلاء؟

جُيّشت حافلات ممتلئة وعلت لافتات الشعارات، صورك وصور الملك أيضاً طفت على وجه الحشود، فرق الإذاعة والتلفزيون..
الطريق القاحل العادي لهذه البلدة الصغيرة رصعته علامات الطرق ورجال الشرطة نُثروا على طولها من الرباط.

من العاطلين إلى الموظفين، من الوزير إلى الأمير، الكل كان هنا. حتى جلادك عبّر عن رغبته في حضور جنازتك، لكنه تحت التهديد العلني لبعض جمعيات حقوق الإنسان، تراجع أخيراً عن ذلك. منذ وفاتك، لم يكفوا عن دفعي نحو الهاوية.
أنا ودموعي الحارقة وكربي، نزعجهم ولكني حينها لم أكن أفكر في شيء سواك، أنت داخل هذا النعش.

لكن لماذا يريدون إخفائي، أنا، دموعي الحارقة وكربي؟
الحشود حوض يغلي، كومة بشرية تحمل معها الإشاعات والاتهامات، ملحمة فناء الحياة. لا أحب الحشد، وفي هذا اليوم، كان عليّ محاربته، مواجهته حتى أصل إلى أقاصي الموت، داخل الموت، هناك حيث أقسمنا ألا نفترق أبداً. الحشد ضبع، ذئبة مغتلمة. ماذا يريد الآن منك، أنت هذا الرجل الواهن تحت كفنه؟

وضع ريشارد يده بتلقائية على كتف آنا وعقبها بقبلة. الصورة الوحيدة التي تذكرني أن الحب ما زال موجودا: ريشارد يقبل آنا بشغف. هذا الرجل متوسط القد، الأسمر، ذو الشعر الكث، والشفتين الممتلئتين والعينين مذهلتي السواد، مثل ليلة مقمرة، لم يكن يجهل أبداً تلك الصداقة التي تربطنا نحن الاثنتين، بقوتها، وبعنفها أحيانا. منذ لقائنا على مدرجات الجامعة، لم نفترق أبداً. أحياناً توافقنا يثيره، لكن عندما تذيب آنا شفتيها في شفتيه تجعله ينسى بسرعة. في الليل، في كل ليلة، آنا ملكه وحده: آنا وجسدها الخلاب، الندي، العابق برائحة زهر المانوليا والزنبق، مُهدى إليه.

انفصلت عنه آنا بهدوء، سحبتني إلى الداخل. تبعنا ريشارد بشيء من الحسرة وهو يرى آنا وابتسامتها المضيئة وعينيها المدهشتين ونور ضحكتها تبتعد عنه. يحاول تمالك غيرته دون جدوى، ما لم نكن نفهمه أو نقبله هو توجسه من هجرها إذا ما اكتشفت آنا مدى الشعور الذي كان ينخره من الداخل. كيف يمكن أن يدافع عن غيرته دون إحراج نفسه؟ الغيرة لا تجيب عن مثل هذه التساؤلات، وتدمر العلاقات بشكل ممنهج. وحش دنيء يتحرك ببطء يبطش بكل من يلتقيه، يضرب بعصى الأعمى ويصرخ، يواصل عواءه طول الحياة. يزمجر، يهين، يبكي، يدمر يدوس كل شيء حي، يتجانس مع الأنانية ويقاسمها المضجع.

تحكي "ألف ليلة وليلة" قصة امرأة التهمتها الغيرة فقتلت زوجها، قطعت رأسه، دفنته في حوض نبات الحبق وتركته قريباً منها، تستنشقه وتسقيه كل يوم.

كان ريشارد يجد لنفسه كل مبررات العالم ليغذي إحساسه هذا الذي كان يعتقده في صميم عشقه لآنا وأن غيرته مشروعة بل وضرورية. هو نفسه لا يطمئن إلا بامتلاك آنا وبرؤية بؤبؤيها يتسعان من المتعة، والإحساس بذراعي معشوقته تضمه إليها بشدة. لم يكن يستطيع التحكم في هاجس الغيرة، وكانت خلواته مع آنا وحدها تهدئ من روعه. ففي مملكة آنا لا حاكم سواه.
أنت كنت تكره هذا الشعور، لم تتقبله ولم تستحمله، أدركتها في بداية قصتنا، وكان عليّ ابتلاع أنانيتي ورغبتي في امتلاكك المطلق.

جلسنا على الأريكة نشاهد الراقصين، كنت أعي بأنني لن أرقص بعد الآن، لا أحد قادر على وقف حمى هذه الأجساد. تنضحُ بطاقة فقدتها.

هذه الطاقة وهذا الدوار يشدّان جسدي إلى جسدك. في ما مضى رقصنا حتى الإهلاك، إلى أن استُنفِدتُ وخررت عند قدميك، مفعمة بهذا الحب العتيد الذي يوحدنا. تنحني نحوي، تأخذني بين ذراعيك، وتحول دون انهياري، قائلا لي: "أبداً لم يحبني أحد هكذا". أقطف الندى والكروم من فمك وثملة أغلق عينيّ.

كل حركات الحياة تقودني نحو ذكراك. أنت، هذا الرجل المحتضر الذي لم يعد يملك شيئا حيال نفسه وحيالي.. صارعت المرض، استعددت للموت، ما الذي كنت أريدك أن تفعله، ما الذي تستطيعه أكثر؟ الحياة والموت يتمايلان أمام نظرك، يراقصان قلة حيلتك. كنت تعيد النظر في القرارات الكبرى في حياتك كما لو أن الموت يطالبك بالحسابات المسبقة أو أنه يمدك بعيون جديدة لتكتشف الوجود. في وسط كل هذا أبقيت على الصمت. لم أكن أريد التشويش على معركتك، ولكن ستظل كل الكلمات التي أحببت أن أقولها لك، والتي توجب على قولها، عالقة في حلقي، كالشوك تنخر صدري. أبداً لم تسمعها. وأبداً لن أقولها لك.

الموت أخذ معه كل شيء. الآخرون هنا لم يملكوا هذا الحياء أمام احتضارك.
لا أدري في ما زهدت عندما تخلل صقيع الزنزانة أطرافك مستنزفاً عروقك وشرايينك، مخرباً دقات قلبك. ولا أدري حتى متى بدأ هذا الخبيث الذي لا يرحم الاستيلاء على أعضائك واحداً واحداً.

يزهر متشعباً في داخلك يذكر قلبك أنه سيخرس ضجيجه، تنفسه، بهجته، أجهل مجدداً ما اضطررت لتركه، ولا كيف انتظرت حقاً ما يستحيل إصلاحه، ما لا يُدفع ولا يُمنع. أي نقاش كان لك مع الموت، وأي مقابلات سرية أجريتها مع عملية التوقف عن الحياة.
آنا ما زالت تمسك يدي، وأنا لم أسحبها. بقينا جالستين دون أن تتفوه أي منا بكلمة واحدة. مجدداً أعدت التفكير هذا الصباح.


* شاعرة وروائية مغربية، والمقطع فصل من رواية "ويتجسد غيابك"، الصادرة بالفرنسية عام 2016.
** ترجمة: غادة الصنهاجي

المساهمون