وهم العولمة

24 ديسمبر 2014
يملك الفقراء قدرة عجيبة على الحلم (Getty)
+ الخط -

المفهوم التقليدي والرائج للعولمة يطرح معنى الامتداد خارج الحيّز الجغرافي حتى كاد يلغيه، وأصبح الإنسان مواطناً كونياً وانتقل الجمعي من اللاوعي إلى منظومة تطبيقات تمظهرت بأشكال مختلفة في قوانين وتشريعات (القانون الدولي)، أو سلعة عابرة للأيديولوجيا والحدود (كلاشينكوف والجينز)... أو وحدة وجدانية تخرق الفيزياء (الهدف في ماراكانا والصياح في بانكوك)... الكل للكل والكل للعالم، والعالم للإنسان، جملة مفاهيم حاولت أطروحات الحداثة أن تجد لها سياقاً فلسفياً موثوقاً بمفكري الموجة الجديدة في أوروبا، وخاصة فرنسا.

ولكن الشعوب بين الحين و الحين تنبّهنا أن هذه المسلّمة، أي العولمة، التي تحوّلت إلى سلطة معرفية، لا تملك من القوة إلا القدرة على النفاذ إلى الأذهان عبر الإعلام وتصوّرنا على أننا في عصر القرية الصغيرة.. تنبّهنا أننا نعيش وهماً، وأن امتداد الإنسان هو امتداد إلكتروني، والجغرافيا أصبحت أكثر سطوة، والعبور ضريبته الدم (قوارب الموت من أفريقيا إلى أوروبا)، ورقة التمدّن الأوروبي معزولة عن شعوب ما قبل القراءة، العرب نموذجاً، العالم أصبح عوالم مغلقة، والسلطة تبحث عن المركز أكثر من أي وقت مضى، حماية لنفسها، والابتهاج بتحطيم جدار برلين ينسينا سور الصين العظيم، وديمقراطية المعلومة كذبة يتسلى بها أسفه ضابط استخبارات.. الأرض معروضة للقسمة مع أول رصاصة.. من دارفور في السودان، إلى شبه جزيرة القرم في أوكرانيا.. والجيوبوليتيكا أصبحت سوريالية مع داعش... والشعوب تنبّهنا أيضاً أن الشيء الوحيد المعولم هو الظلم والاستبداد والقهر والمهانة.. إبادة جماعية في سيناء.. قتل رحيم بفيروس إيبولا.. نهب غابات البيرو... القتل على الهوية في العراق.. كل يوم طائفة جديدة تبحث عن قبلتها.. والأقليات مادة ملهمة للمقابر الجماعية...

والشعوب تخبرنا أيضاً أن الحرية كلٌ لا يتجزّأ، وأن للأحرار صوت واحد بنبرات مختلفة، معهم فقط يصبح التنوّع تثاقف.. وكل الميادين هي التحرير.. المشهد نفسه تكرر، وبنقل يكاد يكون فوتوغرافياً.. ذلك الطالب في ساحة تيان أن مين في بكين أثناء انتفاضة الطلبة سنة 1989، الذي اعترض بجسده النحيل رتلاً من سبع عشرة دبابة وملالة، إنه هو الذي وقف أمام مصفحة الشرطة في ثورة 25 يناير المجيدة، في أحد شوارع القاهرة، وهو الذي سنجده في كل ميادين وساحات العالم مؤمناً بالحرية، حالماً بها، يشارك الناس حزنهم، فرحهم، شغفهم، غضبهم... عولمة الحب.. إذن.

الشعوب تكسر المفاهيم، وهي وحدها القادرة على صنع الفكرة، لأن الفقراء يملكون قدرة عجيبة على الحلم، ربما هذا ما أبقى فصيلتها حية ولم تنقرض.. فالفكرة لا تولد إلا حرة بين قيود.

ما بعد وهم العولمة.. العودة إلى الديار واحتضان الذوات المهاجرة، والتخلّصِ من العلاقات المعكوسة، التي حوّلت حراس الحرية إلى كلاب حراسة.. الانتصار لمفهوم الشعوب، لعالم أجمل يتسع فعلاً، وليس بالقوة، للجميع على أساس اختلافهم الخلاّق والمبدع، العالم للكل، ولكن لا ينفي عوالمنا الخاصة التي تتشكل على تخوم الفرحة بثورة وبرغيف الخبز... نهاية العولمة ظاهرة إعلامية هي بداية لعالمية الإحساس الحر المنفلت من المدنّس والمقدّس ولا يخضع لمخرجات مراكز البحث. إحساس قادر على أن يشكل نفسه كياناً اجتماعياً متحركاً يتبنى ضمير الشعوب ويتماهى مع حداثتها وتقدميتها، بعقل ووعي تاريخي متفرّد ومتميّز امتداده الإنسان وسقفه الإنسان.


*تونس