فوجئ ونستون سميث، الشخصية المركزية في رواية "1984" لجورج أورويل، وهو يكتب أول سطر في دفتر يومياته أنه لا يعرف لمن يكتبها، للمستقبل أم للماضي أم لعصر قد يكون متخيلاً؟
ومصدر هذه الحيرة هو أن كتابة اليوميات في عصره أمر محظور، فما بالك والعبارة الأولى فيها هي "يسقط الأخ الأكبر" أي رمز التسلّط، وكلا الأمرين ليست عقوبته الموت فقط، بل والإبادة الكاملة؛ سيتحوّل دفتر اليوميات إلى رماد، وهو ذاته معرّضٌ للتبخّر. شرطة الفكر، وهذا هو الاسم المبتكر لجهاز وظيفته التجسّس على أفكار الناس، هي وحدها من سيقرأ ما سيكتب، قبل أن تمحوه من الوجود والذاكرة.
وتتحوّل الحيرة إلى معضلة: فحتى لو مزّق الصفحات التي كتبها ولم يواصل الكتابة، أو لو واصل الكتابة، فلن يكون الحال أفضل، لأن شرطة الفكر ستقبض عليه متلبّساً في الحالين، إنه هو كتب ما يفكر فيه أو لم يكتبه. لقد ارتكب وسيظل يرتكب الجريمة حتى لو لم يمسك قلماً وورقة. جريمته الأساسية التي تتضمّن بقية الجرائم هي ارتكابه لجريمة تسمّى جريمة التفكير، الأمر الذي لا يمكنه إخفاؤه إلى الأبد. ربما ينجح في المراوغة لفترة، وحتى لسنوات، ولكنهم سينقضّون عليه عاجلاً أم آجلاً.
في أيامنا هذه، سيكون مرّ على تفكير ونستون بمعضلته هذه ما يقارب 68 عاماً، أي منذ أن ظهرت هذه الشخصية الروائية وعرفت لأول مرة في العام 1949، وتوقع الكثيرون أن هذه الرواية المتنبئة، والتي تدور أحداثها في عالم متخيل من ثلاث كتل، ستلقي بظلالها على مستقبل دول الأنظمة المسماة شمولية، الدول الاشتراكية تحديداً، وإذا بنا نجد ظلالها تمتد فتشمل دولاً رأسمالية بامتياز، يجسّد "الأخ الأكبر" فيها الذي يراقبك أينما التفت، في الشارع والبيت ومكان العمل، كائن آلي خالد مركّبٌ من شركاتِ أسلحة وطاقة وأموال، تكمن خصوصيته في أنه جهاز هضمي بحت.
أحد جوانب معضلة ونستون المواطن اللندني تمثل أيضاً في "معجم اللغة الجديدة"، التي ابتكرها فقهاء نظام الأخ الأكبر المشخص برجل ذي شاربين كثين، والمشخص حالياً بهذا الكائن الآلي الخالد، الجهاز الهضمي. ويصدق وصف هذه "اللغة" على ما يشيعه الآن فقهاء أجهزة إعلام هذا الكائن الآلي ومنظّروه المخابراتيون مثلما صدقت على ذي الشوارب الكثة.
يقول أحد صنّاع المعجم الجديد: "هل تعلم أن عملنا ليس اختراع كلمات جديدة، بل تدمير اللغة؛ تدمير أعداد كبيرة منها كل يوم.. نحن نجرّد اللغة من لحمها وصولاً إلى العظم.. وهل تعلم أن لغتنا الجديدة هي الوحيدة في العالم التي تتضاءل مفرداتها كل سنة؟".
ويشرح: "هدف اللغة الجديدة هو تضييق مدى التفكير، إلى أن نجعل من المحال ارتكاب جريمة ولو فكرياً، لأنه لن تكون لديك كلمات تفي بارتكاب تفكير من أي نوع. سيعبّر عن كل مفهوم تحتاجه بكلمة واحدة فقط، وبمعناها الجديد الصارم، وستمحى كل معانيها الجانبية والرديفة وتنسى. ومع كل سنة تمر تصبح الكلمات أقل فأقل، وسيكون مدى الوعي أضيق فأضيق.. إلى درجة أن لا أحد في العام 2050، سيفهم حديثنا الذي يدور بيننا الآن".
ويلخص هذا الفقيه النتيجة بعبارة واحدة "في الحقيقة لن يكون هناك فكر.. مثلما نفهم الفكر الآن.. أي لا تفكير.. لا حاجة للتفكير.. وهذا هو الوضع المثالي الذي يعنيه الإيمان الحق".
هل ثمة خطأ إذا خاطب أحدنا السيد ونستون سميث بعبارة "ياشبيهي ..يا أخي"، كناية عن أنه مثله ضحية اللغة الجديدة، وسلسلة الهجمات على الذاكرة؟ وإشاعة عادة التفكير المزدوج، أن تعرف وأن لا تعرف؟ أن تكون مدركاً للحقيقة بينما تتفوه بالأكاذيب؟ أن تكون لديك فكرتان متناقضتان وتؤمن بهما كليهما؟