ونذهب بحجة تصفيف الشعر!

25 فبراير 2019
+ الخط -
تتحرر النساء من التحفظ عند مصفف الشعر بشكل يلفت انتباهي جدا.
أؤمن أن التحفظ طيف واسع، وأن درجته ترتبط بشخصية الفرد منا وبخلفيته الاجتماعية وبنفسيته ومخاوفه وحساباته، وأن تحديد كود إلزامي للجميع فيما يخص هذه المسألة سخف وقلة فهم، إذ إنه ليس دِينا يُتّبع مادام الواحد لا يتعدى حدود الأدب أو حقوق الآخرين. لكن ما يثير عند الكوافير هو ملاحظة حالة عامة من التخفف من عبء التحفظ والكتمان من غالبية الحاضرات باختلاف شخصياتهن.

طالما سمعت عن تسليم الرجال رؤوسهم للحلاق فيما يشبه الجلوس على كرسي الاعتراف! وكأن الرجل منوط به تنسيق الشعر والأفكار معا! فتلاحظ حالة من الاستعداد للبوح تتلقف أول سؤال أو تعليق من الحلاق، فتنفلت لتسع جلسة الحلاقة كلها. حالة تتجاوز ما يشتبكون فيه ليل نهار من نقاشات وجدالات، لتصل لدرجة الفضفضة التي قد لا يمارسها الواحد منهم مع أقرب الأقربين. وعرفت أن الحلاقين الناجحين والمشاهير يعرفون هذه الحالة جيدا، ويستغلونها لخلق زبائن دائمين يحرصون على مشوار الحلاق ويقدسونه، لا طلبا لضبط الشكل بقدر ما هو تلهف على ضبط النفسية.

وظني أن ما يحدث عند مصفف الشعر الحريمي شبيه بالحاصل عند الحلاق، لكنه مضروب في عشرة! والتفسير الشائع عن ثرثرة النساء الدائمة بلا هدف هو بلا شك ضرب من السذاجة والتعالي بل والتنمر الذي يتعامل به الرجال مع تعقيد النساء الذي لا يفهمونه، فيسطحونه من باب الاستسهال، أو من باب الغباوة ربما!


والواقع أن ما يحدث عند الكوافير يتجاوز الفضفضة مع من يقوم بالعناية بالشعر، ليصير حالة من البوح المفتوح بين معظم المتواجدات في المكان. وإذا تمسكت الواحدة بقدر معقول من الملاحظة الجيدة، فستخرج من جلسة الكوافير هذه بصُرة مليئة ذهباً من المعرفة عن التجارب والآراء والأوجاع الإنسانية شديدة الرهافة وعالية الحس. تجارب مغموسة في الحنان الأنثوي، ومُبَهَّرة بالانفعال التلقائي، ومحملة بروائح الإيثار والعطاء النسائي غير المحدود، ومزينة بفسيفساء التفاصيل التي لا تلتقطها وتفسرها وتفهمها إلا حواء.

وقد يعيب مثل هذه الوجبة المغذية بالطبع اختلاطها بالكثير من الغَيْبة والفَشر، لكن هذا هو حال الوجود الإنساني كله، شروة تحمل النفيس والغث معا، ولذلك لا تؤتى الحكمة ولا السعادة إلا بالتغافل وقلة تصدير الأحكام كما يقولون.

كيف أنسى على سبيل المثال اليوم الذي بكت فيه سيدة خمسينية عزباء متأثرة وهي تحكي لمصففة الشعر عن إصابتها القديمة بالبهاق وكيف أنها تسببت في الماضي في فسخ عقد قرانها، وكيف أنها تكره المناسبات والأعياد التي تتحرج فيها من الظهور ببقع وجهها البيضاء الواضحة، فما كان من إحدى الموجودات إلا أن خرجت، وغابت فترة، وعادت بمسحوقي تجميل من أفضل الأنواع المستوردة، وأخبرتها بأنها فنانة تشكيلية لا خبيرة تجميل، لكنها تفهم في خلط الألوان وعندها تصور لكيفية إخفاء تلك المساحات الفاتحة التي تداري جمالها، وأخذت تجربهما على وجه السيدة الباكية لتغطي البقع، وكلما أفسدت الدموع ما تفعله، مسحتها لها وأكملت المحاولة، بينما لم نملك كلنا إخفاء دموعنا، أو أظننا لم نحاول.

أو يوم أسلمت رأسي للمساعدة عند حوض الغسيل، فسمعت إحداهن تقول بخليط من حنان وحزم الأمهات، لمن تعرفت عليها أمامي من نصف ساعة فقط: عندما يأتي اليوم الذي يمر كاملا وأنت منشغلة تماما فلا يزورك طيفه إلا على الوسادة ليلا، فلتعرفي أن غدا سيتأخر طيفه وسيضل طريق وسادتك، ثم سيمر ويتوارى كغيره من الذكريات.

ويبدو أن المستمعة الصغيرة كانت قد عاجلت معرفتهما القصيرة بالشكوى من سقوط شعرها بسبب سوء حالتها النفسية، واستغلت دقائق اللقاء الأولى في الحكي عن قصة حب أو خِطبة لم تكتمل.

وفي حلٍ أنا من وصف كيف أخفى تيار الماء الدافئ النازل على رأسي ظهور تأثري وفضولي في رؤية خبيرة الصحة النفسية تلك وهي تستقطر معظم حكايات الحب التي عرفتها، لتصوغ مواساتها الرقيقة لإنسانة غريبة وحزينة بمثل هذا التعاطف والصدق، وأظنني لو كنت أجرأ لقُمت واحتضنتها!

والحقيقة أنني أفتدي لحظة تواصل إنساني صادق كهذه بكل عيوب حواء منذ نزلت مع آدم إلى الأرض. وأفتدي لحظات كتلك بكل ما يسببه مشوار الكوافير من تعطيل وزحام وانتظار طويل. فأذهب إليه عادة وكلي تشوق للزاد الإنساني الذي أتزوده من غريبات لا يربطني بهن سوى التحجج بضرورة قص الشعر أو تصفيفه عند محترف، فيما الحق أننا نتوق للدفء والتحلل والبوح في حضرة طاقة إيجابية هائلة لا يبذلها هكذا بلا مقابل سوى النساء.

النساء.. النساء..

لسن ملائكة ولا منزهات، لكنه ذلك الجمال والعمق الذي يستدعيه ضعفهن الكامن. ذلك الوجود المتواضع المنفتح الذي يقارع الإيجو الذكوري المصطنع فيهزمه. وتلك القدرة على تمثل الآخرين وتلبسهم واحتوائهم.. بحيث لا تكون الدنيا دونهن إلا حلبة مصارعة ثيران لا تستحق كل هذا العناء.

دلالات
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى