ومن وعثاء السفر

09 فبراير 2020
+ الخط -
عندما كان الأولاد صغارا، وكنت أعتبر عملية نقلهم لتمارين النادي يوميا "سفرة صغرى" تحسبا لمشقتها وتحضيراتها وضبط مواعيدها وسط الزحام وباقي مسؤولياتي، كانت لي صديقة بثلاثة صغار مشاغبين كقرود السيرك، وكانت تعتبر الذهاب بهم إلى دهب سيناء بالحافلة لأربعة أيام رحلة ممتعة وبسيطة بساطة شكة الدبوس!

بل كانت تزيد في ذهولي عندما أجدها بعد العودة بيوم واحد وقد حزمت الحقائب والعيال وأبيهم فوقهم، وها هم متجهون بالسيارة لحضور زفاف ابنة خالتها في المنصورة! وعندما تعود فأحادثها على الهاتف مواسية التعب الذي أصابها من السفر و"الشحططة" على الطرق بالتأكيد، وأعرض مساعدتها في أي شيء، أجدها تحتسي كوب الكاموميل الليلي الدافئ بمنتهى الهدوء، وتخبرني بأنهم سيذهبون بالقطار بعد غد لقضاء أسبوع في الأقصر وأسوان! وعندما أصرخ على الهاتف مذهولة: طيب والغسيل؟ والثلاجة؟ وتحضير الشنط؟ والنوم..النوم..لحقتوا نمتوا؟! كانت تضحك مستعجبة من تعقيدي للأمور وتؤكد لي أن ذلك كله من سهل المهام وسريعها ولا يقلقها البتة!

كنت أضع السماعة وأتخيلها كالمرأة الخارقة، وأتخيل زوجها كالرجل الأخضر، وأشاهدهما في ذهني في فيديو بالحركة السريعة وهما يحملان الحقائب ويفرغانها في الهواء، ثم يحممان القرود الثلاثة ويطعمانهم، ويضعانهم في أسرتهم، ويقومان بتنويمهم بأشعة خضراء سحرية ما، ثم يفرغان لتحضير الحقائب الجديدة، وغسل الملابس والصحون في زمن الفيمتو ثانية، قبل أن يجلسا حبورين لمشاهدة فيلم السهرة وقزقزة طبق الفول السوداني انتظارا لموعد القطار!


وكنت أقارن ذلك بتحسبي لأي سفر قبلها بأيام طويلة، وتفكيري في عشرات التفصيلات التافهة غالبا، وحملي لهمّ الطريق وكأنني أول من سلكه، فأبتسم لفرط تنوع خلق الله!

وبالرغم من عشرات الرحلات الطويلة والقصيرة بكل أنواع المواصلات، وحدي أو مع بعض أسرتي، أو معهم مجتمعين، ما زلت أقف مشدوهة أمام كل مسافر عربي أو أجنبي يحمل في المطار حافظة نقود وأوراق صغيرة على خاصرته، ويجر حقيبة خلفه يصعد بها لكابينة الركاب من فرط صغرها، فيما نختار نحن خطوط الطيران التي تسمح بأكبر وزن حقائب ممكن! ولطالما أوشكت أن أسأل أحد هؤلاء المسافرين "اللايت" عن المعجزة التي يكتفي معها بغيارين داخليين وقميصين ومنامة واحدة وهو مسافر لأسبوعين من لندن إلى كيب تاون مثلا، فيما أذهب لبيتي وحدي من الإسكندرية للقاهرة أو العكس معتبرة نفسي على سفر، ومعي "متاع" يكفي عشرة مسافرين من ذلك النوع العجيب!

السفر نشاط بشري جميل طبعا. والإنسان يتقد ذهنه وتهدأ هواجسه كلما أدرك اتساع هذا العالم وتنوعه، فيخرج من دائرة همومه الضيقة ليُفاجأ بأنها ليست بتلك الأهمية التي يتصورها، وبأن مشاكله ومعضلات منطقته كلها وجد لها الآخرون حلولا منذ مئات السنين، فيتعلق بحبال الأمل، أو يتحسر على حاله..كلٌ بحسب ضيائه الخاص. كل هذا طيب ومطلوب ويبدأ أوتوماتيكيا عند الوصول لوجهة السفر، لكن أخبرني بالله عليك، التحضيرات والأوراق والمواصلات والانتظار وقلة الراحة حتى الوصول، ما جمالها؟!

ولندع مسألة تحضيرات السفر المبالغ فيها، وكذا الحمل الزائد من الملابس والأغراض.. كان الأولاد صغارا وكنت أبالغ في طلب الكمال كما تعرفون.. أيام مرحلة صناعة الطفل الكامل الخادعة التي تمر بها غالبية الأمهات، قبل أن يدركن أن هناك نصف مليار طفل حول الكوكب يملكون نفس عبقرية أطفالهم ونفس طاقاتهم الكامنة، وبالطبع لن يصبحوا جميعا قادة العالم!

فمع الوقت أصبح الأولاد يجهزون حقائبهم، وقللت، قدر المستطاع، من حمولة السفرات، لكن لم يكن ذلك أبدا كل شيء.. وهنا أجدها فرصة طيبة لنتذكر معا فصيلا من إخوة الإنسانية الذين يصابون بغثيان وسائل المواصلات، ويقضون طرق السفر واجمين باهتين موشكين على قذف عصارة معدتهم المرتبكة في أي لحظة، فلا أقل من التعاطف معهم ومراعاتهم بمداراة شطائر التونة أو وجبات "البيف والتشيكن" الساخنة، أو التعفف عن شرب عصير الجوافة أو رش معطرات الجو والجسم، والتقليل من جو البهجة والحديث الصاخب والنكات والقفشات وكأننا في رحلة! فالطرق بالنسبة لهؤلاء المساكين صنف من صنوف ابتلاءات الدنيا التي لا يملكون معها إلا أحد حلين: إما تناول العقاقير المضادة للغثيان والتي تسبب النوم العميق لساعات، والسفر عادة لا يتحمل تلك الرفاهية. أو الاستعانة على البلاء بالدعاء.. وتذكر أن للسفر "وعثاء" حقيقية تستحق الاستعاذة!
دلالات
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى