ذكرى الرحيل الأولى واللقاء الأوّل والقبلة الأولى والبيت الأول.. ذكريات لا تبقى على حالها. يقتلها الوقت أو نخنقها في داخلنا ونمضي. وها نحن نمرّ أمام ذلك البيت نفسه. لم تعد رائحتنا فيه. غسلته الأمطار كثيراً، وغسله أصحابه الجدد أكثر. نحاول الالتصاق به وتمريغ أجسادنا بجدرانه. لا أثرَ لنا في هذا المكان. نحاول نقل رائحتنا إلى بيتنا الجديد. نمرغ أجسادنا بجدرانه مجدداً. كثيرون يأتون إليه ويخرجون منه بكل هذه الخفة. وقلة يحتلون جزءاً من هذه الرائحة.
ثمّ يأتي الوقت. وها نحن نهرب منه. نلاعبه أحياناً ونكذب تلك الكذبة التي تسعدنا للحظات ونختفي. هو قادر على إخفائنا في النهاية. تبقى ذكرانا، تلك التي يقتلها الوقت أيضاً. يسرق منّا متعة الاشتياق، ويمنعنا من إحضار لحظات قديمة إلى حاضرنا، ونعرف أنها ستزورنا مجدداً.
وهذه صفحة بيضاء. ها هو الوقت يحاول تبييض ماضينا. لكنّنا لا نولد من جديد. يتراكم الماضي في داخلنا من دون أن نتمكن من نزعه. لا مكان آخر له. لا يمكنه العيش في الهواء الطلق أو الغرق في البحر. لا قدرة له إلا على الاستقرار في قلوبنا. وكلّما مرّ الوقت، رغبنا في الانعتاق من أنفسنا كأن نولد من جديد، من دون أن نحظى بالضرورة بعمر إضافي في كل مرة نولد فيها.
ها نحن نولد مجدداً. نخرج من أرحام الماضي. لن تكون الولادة سهلة. الحبل بل الحبال التي تربطنا به قوية. وإذا ما خرجنا منه، وارتاحت ملامحنا، نعود لنخلق من الحاضر ماضيا جديدا. أيكون كلّ هذا نكدا؟ أيكون رؤية للكون من عيون فقدت الثقة بالجمال؟ ربّما. لا يمكن التأكيد هنا.
نخرج من أنفسنا إلى الكون. ذلك الرحب الذي يفتح أبوابه للجميع. لن يوقفنا أحد إذا ما قررنا المشي فيه طوال حياتنا. نأكل عنباً وتيناً وكلّ ما طاب لنا. نشتاق إلى المحبوب ونراه بقربنا. هو هنا في الكون. يأكل عنباً وتيناً وكل ما طاب له من أشجار أخرى. في المساء، نستلقي داخل اللاحدود ونراقب نجومنا وهي تُلامس بعضها في السماء. لم تعد السماء بعيدة في ولادتنا الجديدة.
وأصيرُ أنا بعدما كنت أشكّل نفسي مع آخرين. أنا، في ذلك الكون، سأُعتّق وجهي. أكبر مستعينة بسر الكون المعتّق أيضاً. وأغفو على صوت احتكاك النجوم بعضها ببعض. لا يوقظني أحد. تسقط حبات الفاكهة على ملامحي المعتّقة وكأنها تحميها ولا أستيقظ. لا داعي لأن أفيق. أخاف أن يجدني الوقت، وقد ظننت أنني هربت منه.
في ما بقي لديّ من ذكريات، سأذكر بأنّني مررتُ بكلّ جزء من هذا الكون وعتّقت ملامحي. ولم يداهمني الوقت.