تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة حول انشغالاتها الإبداعية وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- في المدة الأخيرة، شيء ما أعرفه جيداً استولى عليّ، رغم أنني طالما حاولتُ جهدي أن أبقى على مسافة منه؛ ذلك الحزن المتعلق بالشعور بأنني أنتمي إلى لا شيء، بأنني منفصلة عن كل ما هو لي - منفية ومتشظية بين كل القارات. مرة أخرى، ساعدني العمل على مادة الكلمات، على اجتياز المسألة.
ألهمتني هذه اللحظات الصعبة أن أغوص في الأعماق، أن أجد في نفسي وفي العلاقات مع من يحيطون بي مصادر التعبير عن المحنة والمعاناة والشك، بل وأيضاً أن أجد القدرة على مجابهة إرغامات الحياة. علاوة على الكلمات، ساعدتني الذاكرة الحسّية دائماً.
أنا مقتنعة تماماً أنه حتى قبل أن أولد، كنت سعيدة بالمعنى "الدوراسي" (نسبة إلى مارغريت دوراس) للمصطلح بجمال فلسطين، لون السماء الزرقاء، وطبيعة الضوء، وتناغم النباتات والمعادن والعمارة والنكهات والروائح. هذا الجمال، المتسرّب إلى كل خليّة مني، جعلني فتاة متوسطية. وبفضله، لستُ معزولة عن بلدي الأم، على الرغم من أنني منفصلة جسدياً عنه، لأنه يعيش فيّ وفي قصائدي.
الواقع قاسٍ وعنيف، ولكن حقاً، ما الذي يجب فعله لوضع حد للاضطهاد، وكيف نتماسك عندما يبدو لنا أن كل شيء يبعث على اليأس؟ أجيب نفسي بأن أتشبث بالأمل كما يتشبث غريق بعوامة. أمل مجنون، مثل هذا الجنون الذي يمارس علينا. هذا، في رأيي، صحيح بالنسبة إلى فلسطين والعالم. طبعاً، لا يحلُّ الأمل كل شيء، ولكنه عندي المحرّك الأساسي للعمل؛ بلا أمل سوف أيأس وربما لن أكتب أيضاً.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
- نشرت للتو مجموعتي "فوضى، عبور"، وكما يشير العنوان فأنا أتحدث عن الفوضى من حولي، وفي الجزء الأخير منه أكتب بلهجة غالباً ما يطغى عليها نوع من السخرية الذاتية، عن الطريقة التي تجاوزت وعبرت بها هذه الفوضى.
كانت النسخة الأولى جاهزة منذ عام، وعندما انتهيت من المراجعة والتحرير، واصلتُ الكتابة، وكما هو الحال دائماً، بدأت في استكشاف ثيمات جديدة وفي محاولة تطوير طريقتي في القول والتعبير. هكذا أفعل منذ عام 2013، في العام الذي تلا عملية "الرصاص المصبوب" الإسرائيلية على غزة، قررت أن أنشر مدفوعة بشعور كبير من الغضب مجموعتي "أنا من شريط الرمال هذا"، وكانت هذه هي مجموعتي الأولى (كنت أكتب دائماً من دون أن أفكر في النشر).
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختارين؟
- عموماً، أنا راضية عن تطوّري. لقد مرت سبع سنوات وأنا أكتب بانتظام وأحياناً بشكل مكثف. في البداية، كانت قصائدي مرتبطة بالأحداث وتأخذ مسافة قليلة منها. كان هناك تأثير قوي لماضيّ النضالي. كنت في حاجة إلى التعبير عن الغضب، وفي الواقع، ساعدني ذلك على أن أهدأ. ومع ذلك، فإن الشعر شيء والتحليل النفسي شيء آخر.
في مجموعة "اسمك من فلسطين"، كان الجزء الأول عبارة عن ملحمة مصغرة على لسان صوتين ترافقهما الموسيقى، وذهبتُ بعيداً في الرمزية، وواصلت فعل ذلك في مجموعة "فوضى، عبور"؛ مثلاً تحدثت عن النكبة من خلال توظيف اللغة الجيولوجية والكونية وصدام القارات وانفجار الزمن.
في موضع آخر من المجموعة، أستحضر تجربتي في عدم الاستقرار من خلال تعبير "الأرض اليابسة"، الذي يبدو عادياً بالنسبة إلى كثير من الناس. ولكي أقول إلى أي حد تجعل قبضة الاحتلال الإسرائيلي العنيفة على الفلسطينيين حياتهم مستحيلة، فإنني أعيد إلى النجوم رغبتي في الهجرة إلى بلدان تكون فيها السعادة أقل هشاشة.
من جهة أخرى، فأنا كلاسيكية على صعيد الشكل، وشعري يتميّز بغنائية (تشكلت من قراءاتي المكثفة لرامبو وأراغون ولوركا ودرويش وسيزار ونيرودا)، لكنني غدوت أهتم أكثر فأكثر بأشكال أخرى من الكتابة. في كتابي المقبل، أحاول التوجه نحو التبسيط، لكن هذه مجرّد بداية (ليس من السهل كسر القالب). أنا أيضاً أسمح لنفسي بمزيد من الحرية.
على الرغم من أنني لست من المنظّرين للكتابة، إلا أنني أتساءل دائماً: لمن، ولماذا الشعر؟ لا توجد إجابة واحدة. لا يمكننا استنفاد سر الشعر. إنه يمضي في طريقه، غير آبه بأي شيء سوى الرغبة في تتبع الإشارات التي تشكل له معنى وربما لآخرين. إنه صرخة، مقاومة، لعب، تفكير. لهذا السبب تغريني الكتابة المبسّطة اليوم، هذا لا يعني أنني أتخلى عن المواضيع "الكبيرة" الموجودة حالياً في المجموعات الأولى، لكنني أتمنى الآن أن تتكامل بطريقة طبيعية في القصائد "الشخصية".
في ما يتعلق بفلسطين، فقد ظلّت موضوعاً رئيسياً لفترة طويلة، اليوم أشعر أن هناك مخاطرة كبيرة في تكرار نفسي، لذلك قرّرت أن أحصر نفسي، بمعنى أن أكتب أقل، خاصة أن أنشر أقل في هذا الموضوع. لهذا السبب، في "فوضى، عبور" أردت تضمين جزء ثالث شخصي، يجمع قصائد من طبيعة مختلفة. وما زلت منذ ذلك الحين مستمرة في كتابة نصوص مستوحاة من مزاج اليوم الذي ينتهي عادة بالرغبة في غناء أغنية صغيرة. بالنتيجة، أشعر اليوم أن كل شيء يصلح أن يكون مادة للشعر ولا أريد أن أقصر نفسي على موضوع واحد أو أسلوب واحد.
■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
- سأقول الطيبة (bienveillance)، اشتقاقياً؛ الكلمة لها جذران، لكنهما قريبان. الأول، "اليقظة القصوى"، بمعنى السهر على راحة الآخرين، أي أن نكون متنبهين. والثاني، "الإحسان"، والذي يعني القدرة على تحقيق الخير للآخر. أجد الاقتراحين مناسبين بالنسبة إليّ، فالإحسان يعني الاعتراف بالمسؤولية تجاه ما يحيط بي؛ الإنسان، النبات، الحيوان. على وجه التحديد، إنها دعوة لكي لا أعيش كما لو كنت عمياء أو صماء نحو كل ما لا يتعلق براحتي الخاصة أو يؤثر عليها، أو نحو أي شيء لا يهمني.
وفي حين أن الترابط والتواصل شرطان ضروريان لمواصلة العيش ومظاهره وتطويره، فإن العالم يعمل على العكس من ذلك، كما لو كان آلة يجري تفكيكها بلا هوادة. يحدث ذلك عبر إقصاء كل من لا ينسجم مع نموذج النجاح الفردي. وقائمة أولئك المستبعدين من "الحياة الجميلة"، بتعبير الفيلسوفة جوديث بتلر، طويلة: الشعوب المضطهدة، والمهاجرين، والمعنفين، أشخاص من أصول معينة، ولون معين ودين معين.. إلخ. وأنا لم أتحدث بعد عن النبات والحيوان، ناهيك عما لا يمكن للحواس الخمس القبض عليه على الفور.
لا أريد الوقوع في فكرة الملائكية، ليس كل الشعراء طيبين، لكن يبدو لي أن ممارسة الشعر يمكن أن تساعد من حيث أنها تطوّر القدرة على الاستماع والمراقبة، الشعر بمثابة استكشاف للذات وللعالم والعلاقات المتبادلة بينهما، ومحاولة الجمع بين ما جرى تفكيكه.
■ شخصية من الماضي تودين لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- أود أن ألتقي بشخصية من المستقبل، رجلاً كان أو امرأة، سيلعب الدور الذي لعبه مانديلا وغاندي ومارتن لوثر كينغ في زمانهم. نحن بحاجة ماسة إلى أشخاص من هذا النوع والمكانة؛ ملهمين قادرين على جمع الناس، وتعبئتهم - من خلال قوتهم المعنوية وقدرتهم القيادية - بهدف إحداث تغييرات اجتماعية وسياسية كبيرة.
■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعودين إليه دائماً؟
- لاما جوندون، راهب تبتي، لن أسميه صديقاً بل حامياً. بعد أن قضى حياته في التأمل غادر التبت وهو في عمر الستين إلى فرنسا، بناء على طلب من المسؤول عنه. لقد استمعت إليه لأول مرة أثناء حديثه - من خلال مترجم - إلى بضع مئات من الأشخاص. وصلتُ متأخرة، جلست في آخر القاعة الكبيرة لليونسكو. عندما رأيته من بعيد، قلت لنفسي: لا يزال هناك رجال حكماء بيننا وليس فقط في الكتب. يُطلق على هذا الشعور الانتقال من القلب إلى القلب، وهو انتقال مستمر، على الرغم من أن لاما جوندون غادر جسمه منذ سنوات.
■ ماذا تقرئين الآن؟
- على الطاولة بمحاذاة سريري، "قصائد مختارة" لـ فولكر براون، شاعر ترتبط حياته وعمله ارتباطاً وثيقاً بتاريخ جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وكذلك تجاوزات النظام البيروقراطي الاشتراكي والليبرالي الاقتصادي الذي حلّ محله. و"لماذا أنا نحات" لجياكوميتي الذي كان يقوم بمسح/ تدمير ما يفعله مساء ويبدأ مرة أخرى بدافع من الرغبة لفهم أسباب الفشل. بالنسبة إلى الكتابة المينمالية أقرأ عمل أندريه دو بوشيه "هنا على اثنين".
أعيد قراءة إميلي ديكنسون أيضاً، وأخرجت مجدداً كتاب "سكيردانيللي" لـ فريدريك مايروكر، شاعر نمساوي لديه فن بناء بانوراما شعرية من خلال الجمع بين عناصر متفرقة من الماضي والحاضر. وأعيد قراءة "الجاهل" لـ تانيكاوا شونتارو المولود عام 1931 وأحد أكثر المؤلفين تقديراً في اليابان. وهو قادر على خلق لحظات رائعة من مواضيع صغيرة وبسيطة وهامشية، ويؤكد أن الموت والشعر هما أساس الحياة، لأن أحدهما لا يزال مجهولاً بالنسبة إلينا.
■ ماذا تسمعين الآن وهل تقترحين علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- الموسيقى الكلاسيكية، ولا سيما شوبرت، وكذلك أنجليك إيوناتوس، الموسيقية والمغنية اليونانية التي أحب صوتها؛ لقد غنّت للعديد من شعراء بلادها، خاصة أوديسيوس إليتيس الحائزة على جائزة نوبل للآداب.
أخيراً، في الإجابة على الجزء الثاني من السؤال، كان عمري 16 عاماً، وقد غادرت بيروت للتو متوجهة إلى مونتريال لمواصلة دراستي. كانت الحرارة أقل من عشرين، والسماء خفيضة وبيضاء واستمعت إلى ليو فيري يغني قصيدة لـ لويس أراغون "أهكذا يعيش البشر"، وقصيدة "الرواية التي لم تكتمل" الرومانسية التي كتبها أراغون لإلزا.
بطاقة
وُلدت أوليفيا إلياس في حيفا قبل احتلالها واضطرارِ أسرتها إلى اللجوء إلى لبنان. انتقلت إلى كندا لدراسة العلوم الاقتصادية، ثمّ درّستها هناك حتى بداية الثمانينيات، قبل أن تستقر في فرنسا. في 2013، أصدرت باكورتها الشعرية "أنا من شريط الرمال هذا". لاحقاً صدر لها: "الأمل كحماية وحيدة" (2015)، و"اسمك من فلسطين" (2017)، "الفوضى، عبور" (2019). تُرجمت نصوصها إلى العربية والإيطالية والإنكليزية وغيرها.