لن أقول إن الوقت بريء. كلّما حاولتُ الاحتيال عليه فشلت، حتى صرت أمنح نفسي هامشاً بعيداً عنه يخصّني وحدي. هامشاً كان بمثابة عذرٍ دائمٍ لعجزي عن تطويع صرامته. الوقتُ أشبه بأرقام تتوالى قبل أن تعود إلى نقطة الصفر. من رقم ننطلق لنصل إلى آخر. كأننا في حساب دائم. وإذا أخطأنا العدّ تأخرنا أو أبكرنا أو اختلطت الأشياء.
عمرُنا مجرّد وقت. ولدنا في ساعة محددة وسنموت في ساعة محددة. وبينهما، مواقيت كثيرة نظنّ أننا نختار معظمها لنضع أحداثاً فيها. تمرّ في بالي أغنية جوليا بطرس "وقّف يا زمان". كلّما تذكرتها، أتخيّل نفسي أخنق كوكب الأرض بين ذراعي. لن يحدث مكروه لكائناته لو توقف قلبه قليلاً عن الخفقان. هذه لحظة سلامٍ نريدها من دون أن يلاحقنا. كأن تتعطّل ساعات العالم جميعاً ونصبح أحراراً لا نخشى أن يدهمنا وقت، ولا نخاف من مفاجآته.
لا يتوقّف الزمن. يركض سريعاً كأنّه يريد الانتهاء منا ووضعنا في باطن الأرض. أليس هذا ما نودّه أيضاً؟ أن نعيش بعيداً عن رقابته وسطوته؟ ألم نكن نحبّ أن نحتال عليه فننام كثيراً أو نسهر ولا يطلع الصباح؟ عرض علينا تسوية لم نقبل بها. في باطن الأرض، لا شروط ولا مواقيت. يمكننا أن نحلم إلى الأبد. لكنها أحلامٌ لا نراها ولا نحققها، وتدفن بدورها تحت التراب. في الوجه الآخر للأرض، ربما نقول إن الوقت أمامنا لنذهب إلى مكان آخر. ما من أحد يستعجلنا حتى عمرُنا. هناك وقت لنختار بهدوء، وننتظر الإشارات المناسبة. لن تفوتنا القطارات. ولا حاجة لأن يتوقف الزمن.
لا زمن ولا هواء ولا شمس. الظلمةٌ تقتلُ إحساسنا باللاوقت. إلى سطح الأرض مجدداً. ولو أشرقت الشمس في وقت محدّد واستيقظنا من بعدها واستسلمنا إلى المواقيت. ثمّة هامشٌ نضيّعه في أحيان كثيرة، كأن ننسى أنه يخصّنا وحدنا. إنه اللاوقت الذي نهرب إليه. داخل هذا الهامش، تكون الأحداث ملكنا وحدنا. نرتّبها كما يحلو لنا. لن نندم أو نقول تأخرنا أو فاتنا الوقت. وننسى أننا في سباق معه، وأنه الغالب حتماً. على الأقل، لن نعترف له بذلك.
ربّما يُمكننا الاستيقاظ قبلَ شروق الشمس، والتمايل قبلَ سماع الموسيقى. وإن أخطأنا في الإيقاع، يوجد وقتٌ لضبطه مجدداً. نحن الآن في ذلك الهامش. إن غفونا سنستيقظ في العالم نفسه. ربما ننظرُ إلى أيدينا ولا نرى أي ساعات. لا وقت ولا أرقام ولا عقارب. سلامٌ وموسيقى وأبدية. هنا في ذلك الهامش، تتودد الحياة إلينا، وتهمس لنا أن هناك وقتاً لأشياء كثيرة.
اقرأ أيضاً: كادَ جسدها أن يتبخّر