وعي الثورة في مصر

22 مايو 2014

علم مصر في ميدان التحرير 8 فبراير 2011(Getty)

+ الخط -
القضية، ليست أن تثور، فالقضية الأكبر أن تحافظ على ثورتك.
خلافاً للشائع، أتصوّر أن أسهل مراحل التغيير، في أي بلد استبدادي، هي مرحلة إسقاط النظام القائم، وأصعبها، وربما أطولها وأعقدها، مرحلة الاتفاق، وبناء النظام البديل "الدائم". وبين المرحلتين تقع كل أنواع الأحداث، والأخطاء، وربما الخطايا.
عندما وجّهت، من مقر البرلمان الشعبي في مصر (الذي أسسناه في مواجهة برلمان 2010 المزور) كلمة بعنوان: "ارحل" في يوم 21 يناير/ كانون الثاني 2011، قبل الثورة بأربعة أيام، كنت على يقين أن نظام حسني مبارك سيرحل، ليس بالضرورة يوم 25 يناير، لكن قطعاً خلال أيام أو أسابيع قليلة. وفي يوم 11 فبراير/ شباط 2011، أعلن مبارك رحيله، بعد 30 عاماً، ظل قابعاً فيها وقابضاً على زمام الأمور، وتملّكتني، ككل المصريين، فرحة جارفة بنجاح جهد سنوات طويلة، لإزاحة هذا الكابوس "ديموقراطياً"، ثم "ثورياً"، بعدما أغلق أبواب التغيير الديموقراطي.
وإذا كانت الدراما المصرية، في مرحلة (الأبيض والأسود)، أدمنت، وأدمنّا معها، النهاية السعيدة لكل فيلم، بزواج البطل والبطلة، مع نزول كلمة "النهاية"، فدائماً كنت أسأل نفسي بطفولة، وفضول، أحياناً، وماذا بعد هذه النهاية السعيدة؟ هل ستستمر الحياة سعيدة؟ أم أن البطل والبطلة قد يختلفان وينفصلان؟ أحسب أن يوم 11 فبراير/ شباط 2011 كان النهاية السعيدة لفيلم (أبيض وأسود)، وربما الأدق (أسود في أسود) استمر 30 عاماً، لكننا لم نفكر، ولم نتدبّر بالقدر الواجب، ماذا بعد هذه النهاية السعيدة، وربما كان هذا هو الخطأ الأول، والأكبر، في مسار الثورة المصرية، والذي فتح ثغرة هبّت منها رياح عاتية أودت بكل شيء، وأعادت الثورة إلى المربع صفر.
حدث هذا من قبل، عندما قامت ثورات القومية العربية في القرن الماضي، لكنها أنتجت أنظمة معاكسة لهوى هذه الثورات، فأضاعت حق الشعوب وتضحياتها في سبيل الحرية وتقرير المصير، وتحولت إلى أنظمة موالية للاستعمار ومصالح الدول الكبرى.
من التاريخ
حدث هذا في مصر، عندما قامت ثورة، كان لها قيادات "مدنية" مصرية، مثل الزعيم عمر مكرم، وإذا بالثورة تترجم نجاحها في عزل خورشيد باشا، بتولية "عسكري ألباني"، ليقيم دولته، ومشروعه، وتتناقل أسرته حكم مصر عقوداً طويلة. والاستثناء من هذا السيناريو "الخائب" والمتكرر، كانت ثورة 1919 التي أنتجت كياناً سياسياً جبهوياً، مجسداً للجماعة الوطنية المصرية، بمختلف توجهاتها، معبّراً عن إرادة الثورة، وهو "الوفد المصري"، الذي قام كجبهة جامعة للثورة. فلم يكن "الوفد المصري"، الذي قاد حراك الثورة، وما بعدها، تمثيلاً لرهط، أو لحزب أو لجماعة، أو معبّراً عن طبقة، أو مهنة، بل كانت الأمة والثورة قاطبة ممثلة في الوفد المصري الذي حمل لواء الثورة، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى قيام الثورة في 1919، ثم الأهم كان هو النضال لتحقيق أهداف الثورة، الذي تجسد بعد سنوات بإصدار دستور 1923، الذي رفضه الوفد طمعاً في ما هو أفضل، ثم (في 12 يناير/ كانون الثاني 1924) بإجراء أول انتخابات برلمانية حقيقية، حصد فيها الوفد 195 مقعداً، من 214 مقعداً، أي بنسبة 90%، ما أنتج أول وزارة للشعب، وكذلك تصريح 28 فبراير/ شباط الذي أقرت فيه بريطانيا، من جانب واحد، حق مصر في الاستقلال، وعلى الرغم من كل التحفظات حوله، لكنه كان تحقيقاً لشعار الثورة، وهو الاستقلال والدستور.
لم يكن "الوفد المصري" في ذلك الوقت هو، فقط، قمة الهرم الليبرالي، بل كان جامعاً لقوى اليسار الناشئة، ولقوى إسلامية مجددة، وفي مقدمتهم "الأزهري" سعد زغلول، وأيضاً حاضناً لأحزاب تقليدية محافظة كحزب الأمة، وحزب الوطني القديم، وغيرها من القوى التي كانت تعبيراً عن طموحات ثورة 1919 وأهدافها واستحقاقاتها.
لا أحاول أن أكون مؤرخاً، فقط أسعى إلى التذكير، لاستعادة الوعي عبر الماضي، لنرى صورة المستقبل الذي أنتقل إليه في السطور التالية.
في أثناء ثورة يناير وبعدها
بنبرة "نابوليونية" لا تخلو من التعالي والانتفاخ، قال لي مسؤول كبير في المجلس العسكري، عقب ثوره يناير بأسابيع، لن ننسى لك، ولمحمد البرادعي، ولحركة 6 إبريل، أبداً، ما فعلتموه لإزاحة مبارك، وأضاف: "نصف الموجودين الآن في الميدان، من رجال التحريات العسكرية، وبعضهم يسيطرون على المنصات، ويحددون الهتافات. إننا نريدها ثورة شباب لا أحزاب، وستواجهون في الميدان بالبيض الفاسد والطماطم". كان كلام الجنرال كاشفاً بذاته، عن وحم مبكر على لحم "وحدة الثورة"، ودأب واضح منذ الأيام الأولى، على فرقتها، وبث مشاعر الشك والكراهية بين مكوناتها وصفوفها. وليت شركاء الثورة بالأمس، فرقاء اليوم، يستعيدون ما كان يقال لهم في تلك الجلسات والاجتماعات شبه "الفردية" مع المجلس العسكري، تعظيماً لأدوار كل مجموعة، وتسفيهاً للآخرين، وبثاً للفرقة والكراهية والعداء بين الجميع، وضد الجميع.

ابتلع بعضهم الطعم كاملاً، وتنبّه بعض آخر، لكن جهد المؤسسة كان أكبر من يقظتنا، وبدا الأمر واضحاً والنتائج تحققت، ونحن نستقبل الذكرى الأولى لثوره يناير، في يناير 2012، حيث مظاهر التقاطع والتصادم بين شركاء الثورة تغلّبت على روح التواصل. ونحن نستقبل تلك المناسبة، كانت العلاقات البينية بين قوى الثورة قد بلغت قدراً من التوتر ينذر بصدام في ميدان التحرير، وميادين أخرى في أثناء الاحتفال.
دعوت شركاء الثورة، وممثلين عن معظم التيارات الرئيسية إلى جلسة للتنسيق بشأن ذكرى 25 يناير في منزلي، حضرها الصديق العزيز أبو العلا ماضي، عن حزب الوسط، ورؤساء 15 حزباً ارتبطوا بالثورة، وممثلين عن الحركات الثورية مثلاً: من اليسار رامي شعث، والإعلامي يوسف الحسيني، وأحمد ماهر ومحمد عادل من حركة 6 إبريل، وعمرو عز، وطارق الخولي من 6 إبريل "الجبهة الديموقراطية"، والدكتور ممدوح حمزة عن التيار الشعبي، والدكتور حازم عبد العظيم من حملة البرادعي، ومعاذ عبد الكريم من اتحاد شباب الثورة، وأحمد دومه، وحضر عن جماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد البلتاجي والدكتور أسامة يسين الذي تولى لاحقاً وزارة الشباب، وآخرين من أحزاب غد الثورة، والكرامة، والوفد، والجبهة الديمقراطية. لم يكن الهدف الوحيد من ذلك اللقاء أن تمر الاحتفالات بيوم ذكرى 25 يناير الأول بأقل قدر من الصدام والاحتكاك، ولكن، كانت هناك محاولة أولى "ومتأخرة" لجمع شتات قوى الثورة، وإذابة جليد صنع بمعرفة القوى المعادية للثورة، وظل يتنامى، حتى تحول في الانتخابات البرلمانية الأولى لجبال من الجليد، حيث اشتبكت المصالح، وتعارضت الصوالح، واعترف المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أخيراً، على لسان اللواء سامح سيف اليزل، أنه موّل مالياً أحزاباً وقوى شبابية في مواجهة أحزاب وتيارات أخرى، بينما كان بعض هذه التيارات مدفوعاً، أيضاً، من المجلس العسكري، ومدعوماً منه. مناخ الانتخابات البرلمانية أجهض المحاولة لجمع شتات ثورة يناير، بعد عام من الثورة، على الرغم من قبول معظم الأطراف بوجود لجنة تثقيفية، إلا أن الفكرة ضربت في مهدها. كما كان الفوز الكبير للتيار الإسلامي، وفي مقدمته جماعة الإخوان سبباً مباشراً في إشعال روح العداء بين شركاء الثورة، وخصوصاً أن "الإخوان" فشلوا في صناعة شراكة وطنية واسعة، عقب الانتخابات البرلمانية، وتكرر الخطأ عقب الانتخابات الرئاسية.
وشعر التيار الليبرالي، وبعض قوى الثورة، بغضب مشروع إزاء حالة من الغرور، والصلف التي أصابت الطرف الإسلامي عامة، و"الإخوان" خصوصاً. وتحول التشابك إلى صدام حقيقي في 6 ديسمبر/ أيلول 2012، مع أحداث الاتحادية، وعقب إصدار الإعلان الدستوري الكارثي، والذي بدأ معه نقل المعركة بين أطراف وشركاء الثورة إلى نقطة اللاعودة. حاول الرئيس محمد مرسي، وجماعة الإخوان، تدارك الخطأ الذي وقعوا فيه عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بالاتجاه بصورة أكثر جدية إلى إقامة شراكة، أو تحالف واسع مع قوى الثورة، ولكن، كان الوقت قد مضى، وكانت قوى الثورة المضادة، داخلياً وخارجياً، قد بدأت في بناء تحالفات، وتقديم مساعدات لإنهاء المشهد، ما دفع الفريق عبد الفتاح السيسي في مارس/ آذار 2013، أن يقول للأميركيين إن الأمر انتهى، كما قال نصاً، في حواره التلفزيوني مع إبراهيم عيسى ولميس الحديدي.
كان متأخراً جداً اللقاء في منزلي في يونيو/ حزيران 2013 بين عمرو موسى وخيرت الشاطر، وبات مفهوماً، ومبرراً، لديّ ذلك القصف الثقيل الذي تعرّض له هذا اللقاء، إعلامياً ومخابراتياً، لإفشال محاولة في الوقت الضائع لحقن دماء الثورة التي قرأ بعضهم الفاتحة على روحها في مارس/ آذار 2013، ولن يقبل إسقاط كلمته، أو التراجع عن الفاتحة. لم يكن ذلك اللقاء، كما أدعى إعلامهم، مؤامرة، بل كان محاولة لمواجهة مؤامرة، لم يكن لإجهاض ثورة قادمة، بل كان محاولة للحفاظ على ثورة قائمة. كان محاولة أخيرة لإصلاح البوصلة التي أصابها غياب الوعي، والخبرة، بعطب خطير.
لا داعي للمزيد من التفاصيل، ولا معنى من تحميل فريق، أو إعفاء آخر من المسؤولية، فالجميع أخطأ، وغاب وعيه الثوري، وغابت معه قيم واستحقاقات الثورة التي تآمر عليها خصومها، ولم يحمها صنّاعها، ويُؤكلون اليوم وغداً واحداً بعد الآخر، ويتآكل معهم كل ما تبقى من مكاسب ثورة واستحقاقاتها.
إن الدعوى التي وجهناها إلى عقلاء مصر، وشركاء الثورة، للتوحّد ثانية، لم تكن الأولى، لكنها ربما تكون الأخيرة. فيا كل شرفاء مصر، وشركاء الثورة: عودوا إلى وعيكم.                                                       
                                                                                                      
EFFC6895-FEE8-41EC-8CBC-8D63557C25A8
أيمن نور

سياسي مصري، نائب سابق، اسس حزب الغد، ويتزعم حاليا حزب غد الثورة