لو لم يُتح لوعد بوحسون أن تدخل عالم الموسيقى والغناء عن طريق الكاسيتات التي كان والدها يسجّل عليها ما يبثه الراديو من أغان لأسمهان وفريد الأطرش وأم كلثوم، لأتيحت لها فرصة أخرى بالتأكيد. كانت المغنية وعازفة العود السورية محاطة بأسباب "اعتناق" الموسيقى، الطربية منها تحديداً. ذلك أنها نشأت في بيت لا يخلو هواؤه من ذبذبات صوتية تعود إمّا لحنجرة الأخوين الأطرش، أو للست، أو لفيروز، أو لألحان القصبجي وعبد الوهاب.
هكذا، ستحظى ابنة مدينة السويداء، وهي في عمر الثامنة، بأول عود تدندن عليه، ويتيح لها دوزنة ما كانت تغنيه أمام عائلتها على مساحاته الموسيقية. كانت تلك الفترة العائلية مدخلاً إلى عالم الموسيقى، وركيزة أساسية، ستحتاج خبرة موسيقي مثل محمد قدري دلال، لتنصقل. هكذا، أتقنت وعد مع الموسيقي الحلبيّ، في فرقة "أورنينا"، أداء الموشحات والقدود، ضامّة إياها إلى ما تمتلكه من طاقات على العود.
على خشبة المسرح، لا تدخل بوحسون كطرف في المنافسة التي تجمع بين تقنية العزف على العود واللحن من جهة، والأداء الغنائي والقصيدة المغناة من جهة أخرى؛ بل تنحاز إلى كل هذه الأشياء معاً. يبدو ذلك أشبه بمسؤولية ثقيلة: أن تكون، أنت وحدك، فرقة بكاملها على المسرح. تقول: "غالباً ما أقف وحيدة أمام الجمهور. ذلك يتطلب مني تركيزاً عالياً، في أدق التفاصيل. وهنا تكمن صعوبة كبيرة، لأنني المسؤولة الوحيدة عما أؤديه، عزفاً وغناء، وليس ثمة من يقاسمني هذه المسؤولية".
حتى 2007، ستراوح اشتغالات بوحسون بين مساحات التراث الحلبي وذاك الطربي. لكن هذا العام سيشهد طرقها باب الغناء الصوفي إثر دعوة وجهها إليها "مهرجان فاس للموسيقى الروحية"، للمشاركة في احتفالية أقامها بمناسبة مرور ألف عام على وفاة جلال الدين الرومي. "هذه الدعوة جعلتني أبحر في عالم الرومي وقصائده الصوفية وحياته. اخترت اثنتين من قصائده وقدّمتهما في المهرجان. استهوتني فكرة التعبير بين الظاهر والباطن، بين العشق الإلهي والعشق الإنساني".
هكذا، سيكون لأشعار الرومي، وكذلك ابن عربي والحلاج والسهروردي، نصيب كبير من تسجيلات أسطوانتها الأولى، "صوت الحب" (2009)، التي تبنّى "معهد العالم العربي" في باريس إصدارها. في هذا الألبوم، الذي حاز، سنة صدوره، "جائزة شارل كرو" في فرنسا، كان لأشعار الحب حضورها، إلى جانب تلك الصوفية، عبر أعمال أندلسية لابن زيدون، وحبيبته ولادة.
لا تنكر بوحسون أن الدخول في عالم الموسيقى الصوفية يمكن أن يشكل، مع مرور الزمن، عائقاً أمام تنقل الفنان بين الأغنية الصوفية، بفصاحتها وبعدها التراثي، والأغنية الشعبية، أو العاطفية، الدارجة. على الرغم من ذلك، ليس لدى الفنانة السورية ما يمنعها من تقديم أغان شعبية وتقليدية، بكلمات محكية، من بيئتها في جبل العرب، جنوب سوريا، أو من غيرها: "أشتغل، حالياً، على مشروع جديد، أقدّم فيه أعمالاً تراثية وتقليدية من ثقافات مختلفة. أسعى إلى إنجاز أعمال بسيطة، يتفق فيها البعد الإنساني مع سلاسة الكلمات واللحن".
تشترط بوحسون، في ما يخص الاشتغالات المعاصرة على الأعمال التراثية والفولكلورية، المحافظة على ماهيّتها. ليس لديها مشكلة في تقديم التراث السوري، مثلاً، في قوالب غربية، كالجاز، شرط "ألا تعبث هذه القوالب بلحن تلك الأعمال الأساسي". تقول في هذا المقام: "علينا ألا نقع في شرَك تشويه الأغنية التراثية"، تقول بوحسون. "الموسيقيون الذين يذهبون في اتجاه عصرنة التراث يواجهون معادلة حسّاسة، بين الحفاظ عليه، والرغبة في قول جديد فيه؛ في إعادة تقديمه بروح جديدة تتوافق مع عالمنا الراهن. هذا مبرر جيد لعصرنة الموروث الموسيقي، والاحتفاظ به، عبر استعادته، بدلاً من تركه للمجهول. شخصياً، قدّمتُ أغنيات تراثية، لكنْ في قوالب شرقية ظلتْ وفية لأصل تلك الأعمال".
الفنانة التي تخرجت في "المعهد العالي للموسيقى" في دمشق، عام 2003، نالت، العام الماضي، شهادة ماجستير من "جامعة باريس العاشرة" عن أطروحة قدمتها حول الموسيقى الإثنية التي تعدّ مشروعها الذي تستكمله بالاشتغال على أطروحة دكتوراه، هي العضو في "مركز أبحاث الموسيقى الإثنية". انهمامها البحثي هذا، قادها إلى تساؤلات حول الألوان والألحان الموسيقية التراثية السورية، وتنوّعها، واستجابة كلّ منها، من ناحية اللحن والكلمات، إلى البيئة التي نشأ فيها، أو التي وصل إليها من مكان آخر وتأثر بها.
"مهمتنا، في هذا المقام، ليست "فضّ الاشتباك" بين الألوان المتداخلة، وتحديد انتماءاتها فحسب؛ بل السعي إلى الوصول إلى أسباب هذا التداخل والتمازج. علينا، كباحثين في هذا المجال، دراسة التغيّرات والظروف الاجتماعية المحيطة، وعلاقة الكلمة مع اللحن، وكيف تبنّى أبناء منطقة ما أهزوجة أو أغنية وافدة من منطقة أخرى، وكذلك تتبّع الملامح المحلية التي أسبغوها عليها. علينا، كذلك، تبيان وشرح طريقة الغناء التي تختلف بين منطقة وأخرى، حتى لو كان الأداءان يقدّمان الأغنية نفسها أو اللحن ذاته".
بوحسون، التي أصدرت هذا العام ألبوم "روح العود" (دار "بودا موزيك") الذي يتضمّن مقطوعات صولو على آلتها، "حاربت" طويلاً لتبقى إلى جانب العود والموسيقى الشرقية، في الوقت الذي لم تتضمّن فيه المناهج الدراسية في المعهد الموسيقي الدمشقي مقررات شرقية. صحيح أنها درست الأوبرا، وخاضت في عوالم الموسيقى الأوروبية، إلا أن افتتانها الشرقي سيعود بها إلى منابع هذه الموسيقى المتعددة.
هكذا، تعرّفت إلى عسكر علي أكبر، الموسيقي الأذربيجاني الذي سيصبح معلمها الثاني، بعد محمد قدري دلال، دامغاً تجربتها الشخصية ودافعاً إياها إلى الأمام. بعد ذلك، ستصل تجربتها إلى مرحلة جديدة، مع عازف الناي التركي قدسي إرغونير، الذي ستقدّم معه عدداً من الحفلات، مستعيدَين قصائد رابعة العدوية، وغيرها من الأعمال الصوفية. إلى جانب هاتين التجربتين، ستقف الفنانة إلى جانب العازف الإسباني جوردي سافال، الذي ستضع معه أسطوانة "شرق غرب: تحية إلى سوريا" (2013).
هذا الاحتكاك بثقافات مختلفة، سيساعد بوحسون على اكتساب خبرة في التعامل مع الأنماط الموسيقية المتنوعة، وتشرّب مرجعياتها الثقافية، ما جعلها تتلمّس ملامح هوية موسيقية ذاهبة نحو التفرّد: "كما لكل شاعر متصوّف خصوصية تميّزه عن غيره من المتصوفين، فإن في استطاعة كل مؤلف موسيقي التوصّل إلى شخصية فنية تطرح أفكاراً مختلفة ومتمايزة عن الآخرين. لكن لا بد من القول إن ذلك يتطلب جهداً كبيراً".