وطني آليت ألا أبيعه

25 يونيو 2019
+ الخط -
بعد يوم كثيف بالدراسة وعبث الأطفال وأصوات المعلمين عدت إلى منزلي وأنا أحمل في ذهني ما تركته لنا معلمة اللغة العربية كوظيفة منزلية.. طلبت منا أن نكتب موضوعاً نعبر فيه عما نعرفه عن وطن.

وحين فرغت من أحمالي، ذهبت لأبي الذي كان يجالس جدي وجدتي ويقلب لهما محطات التلفاز يبحث فيه عن نبأ جديد أو صوت يرسم الأمل في وجوههما بعدما استطاع الحزن أن يخط عليهما درباً له..

هممت بسهمي الذي خلته سؤالاً فقلت له أن يصف لي شيئا يرمز له بالوطن، لكن وجدت الإجابة تخرج من جدي قبل أن تجد الحروف لها سبيلاً لصوت أبي، وقال: "يا سيدي هيو الوطن معلق غاد"، وأشار بسبابته على إطار لوحة معلق على الجدار لم يتحرك منذ الأزل يكاد البصر يستنسخه لك على كل مكان، كأنه جزء لا يتجزأ منه، يحتضن ذلك الإطار مفتاحاً معتقاً تقول ملامحه إنه بقي وحيداً منذ زمن، وإنك لو استطعت لمسه لسمعت منه قصصا لم تصل يوما إلى أذن مستمع.


فالتفت إلى أبي أبحث عن تفسير لهذا اللغز، فكانت الكلمات محتبسة في وجهه تخاف أن تخرج فتبعثر أحلام جدّي الوردية. أما جدتي فقد استرسلت ببصرها بعيداً جداً، كأن ذاكرتها أفاقت من غفوة، وأخذت بيدها وحملتها خارج حدود المكان إلى أن أتاها صوت جدي موقظاً لها قائلاً: "مالك يا حجة تفكريش ولا تكلكيش، آخرتنا نرجع عالبلاد"!

فاعتلى بعد ذلك صمت مدوٍّ، كأن الكلمات أصبحت محرمة على كل أحد منا. عدت بعدها أدراجي منسحبا لاجئا لمكتبة أبي لا أبالي بما كان لدي من وظيفة، بل باحثا عن درب أجد فيه وطني، فوجدت أن وطني ليس سؤالا تجيب عنه وتمضي، فهو ليس أرضاً تحاط بحدود وحواجز، هو قضية لكل الأمم، فيه أبواب مشرعة لكل زائر، لا يسأل فيه عن أصول أو أديان يحتضن في ثراه أمة من كل زمن، جميعنا فيه أخوة تجمعنا الأرض الصامدة على مرور النكبات.

في وطني تتعالى قصص الأنبياء تجوب فيها بين الأرض والسماء، ولنا فيه شمس مقدسة ترابط معنا منذ عصور، إذا أبصرتها تظن أنها هبطت من السماء وجعلت من الأرض لها مسكنا بعدما أشفقت على شعبه الذي تتوالى عليه العقبات حتى أصبحت النساء يلدن الشهداء فيه تباعاً، وتتساقط الأرواح فيه كأوراق الشجر في كل المواسم.

في وطني يسقى التين والزيتون بالدماء فتجده شامخاً يناجي السماء، والجبال فيه تشتعل ناراً والمدن فيها لها أسوار صامدة تشهد على حضارات وأمم مرت من خلالها. في وطني تتعالى أصوات المآذن كأنها محبوب فاض فيه الشوق إلى محبوبته فيأتيه الرد من أجراس الكنائس كأنها كانت على موعد للقاء. وفيه عروس متباهية بجمالها فتسير مختالة على ضفاف البحر الأبيض تسعد كل ناظر لها إلى أن اتخذ من ثوبها كفناً أحيطت به أجساد الأبرياء.

ما إن فرغت من قراءة كتب أبي حتى وجدت أن ذلك المفتاح لم يعد إلا قطعة أثرية مجهولة الهوية لا تنتمي لمكان على وجه هذه الأرض، لأن مستوطنة لغاصب تتدعي الحق فوق أرضه،
وأن جدي قد ارتحل من زمن قبل أن تلامس قدماه ثرى بلاده ، وأن جميعهم حولي فقدوا الأمل حتى كادوا ينسون حقهم في العودة، وأن من تذكر قضيتنا أصبح كمن يعيش في ضرب من الخيال..

ولكن سأبقى أحمل الأمل في قلبي على أن تكون لي بقربه خطوة بعد ليله الدامس، وكل ذلك الفراق.. حتى وإن لم يكن بالإمكان.