وطننا… بين الرحيل والبقاء

27 يونيو 2018
+ الخط -


لو كان الأمر لنا، لوضبنا أغراضنا وأخذنا ابنتنا ورحلنا عن هذا الوطن الذي لا يعرف للرحمة معنى، لكني بنظرة واحدة إلى ملامح أمي المنهكة ويديها المكسوتين بالتجاعيد، وظهرها المنحني بفعل الزمن وجسدها الواهن.. أقول لنفسي: كيف أبحث عن حياة أفضل لنفسي وأولادي وأتركها هنا وحدها تكافح من أجل لقمة العيش في هذا الوطن البالي؟ كيف أتركها بعد أن انقضى الشباب ورحل من رحل من الأهل والأحباب؟ كيف؟.. أقول لنفسي لو تمكنت إذا من إيجاد طريقة لآخذها معي، لحلت المشكلة.

ثم أعود وأسأل: وماذا عن أختي الصغيرة؟ تكاد تبلغ من العمر الخامسة والعشرين ولم تعد الصغيرة صغيرة، ثم إنها تزوجت وزوجها يعتني بها.

والأصحاب؟ هم أيضاً يرحلون، ثم إن الإنسان يمكنه دائماً أن يتعرف إلى أناس آخرين ويكوّن صداقات جديدة. والذكريات التي تعج بها شوارع مدينتي؟ تنسيني إياها مشاغل الحياة.

وصغيرتي؟ كيف أربيها في بلاد غير بلاد المسلمين؟ أدرك أن سؤالي يحمل في طياته تناقضاً جلياً، فبلاد غير المسلمين تلك، وإن كان يسودها مناخ يتسم بالعدل والمساواة، لا يرفع فيها الأذان ولا تقام فيها شعائر الدين من صوم وصلاة.

وفي غمرة التشتت بين الرحيلِ والبقاء، تحكي لي صديقتي المقيمة في أوروبا أن ابنتها البالغة من العمر خمس سنوات سألتها ذات مساء: أمي، لماذا لا يمكنني أن آكل لحم الخنزير مع صديقاتي؟ فما كان من أمها إلا أن قالت: لأننا مسلمون يا حبيبتي.

فطرحت الصغيرة سؤالاً قد يبدو بريئاً ولكنه يثير في النفس فزعاً وفي القلب هلعاً: هل يمكننا إذا أن نأكل منه حين لا نكون مسلمين؟

أعود وأسأل، كيف سأعلم صغيرتي أن الصلاة فرض والصوم فرض والحجاب فرض؟ ماذا لو تشربت قناعات الغرب عن دين أمها واتهمتني بالرجعية والتخلف؟ ماذا لو انخرطت في مجتمعها الجديدِ حدّ فقدان الهوية؟

أخلد إلى فراشي والقلب ممزق بين خيارين، أحلاهما مر. أنبقى في بلادنا حيث الأهل والأحباب ونعيش وسيف الغلاء مسلط على رِقابنا؟ أم نلملم القليل من أشيائنا والكثير من ذكرياتنا ونرحل إلى بلاد يسكنها أناس لا يتحدثون العربية ولا يدينون بديننا في مقابل أن نحيا بكرامة تليق بآدميتنا؟
B6A851C4-F77F-4921-9BA0-9C44DAE2B1B0
بسمة مصطفى طه

كاتبة ومترجمة مستقلة وطالبة ماجستير في الجامعة الأميركية بالقاهرة.