02 ابريل 2021
.. والغرب أيضاً مهووس بنظرية المؤامرة
يبدو أننا لسنا وحدنا، نحن العرب، في مقدمة لائحة المهووسين بـ"نظرية المؤامرة"، بل الغرب المتقدّم أيضاً، ولاسيما بنسبةٍ كبيرة منه في فرنسا والولايات المتحدة (مثالاُ لا حصراً)، فحول سؤال من يحكم العالم، ويتحكّم بمصائر البشر فيه، أجرى معهد إيبسوس (وكالة عالمية للأبحاث تأسست في 1975 ومقرها الدولي باريس) استقصاء في مايو/ أيار من العام 2014، تبيّن فيه أن فرنسياً من كل خمسة فرنسيين يعتقد أن "النورانيين" لا يزالون على قيد الحياة، وأنهم من يتحكّم بمصائر العالم، سياسياً ورصداً قدرياً أيضاً.
و"النورانيون"، في المناسبة، جمعية سرية، أسّسها يسوعي قديم، يدعى آدم فايسهوبت في العام 1776، وانتهى أمرها في العام 1789؛ وأصبحت، في العصور الحديثة، مرادفاً لثقافة التآمر، وتفشى مصطلح "نظرية المؤامرة".. من الثورات الفاشلة والناجحة، إلى اغتيال كينيدي، وحتى إلى هجمات 11 سبتمبر.. والحبل على الجرار.
وثمّة أمر ملموس أكثر في هذا المضمار، هو استطلاع مركز إيفوب الفرنسي أيضاً، وجرى نشره في 25 يناير/ كانون الثاني 2015، بعدما استقصى آراء مواطنين فرنسيين حول عمليات 11 سبتمبر 2001، وتبيّن للمستطلعين أن 56% من المستطلعين فقط يعتبرون أن منْ خطّط لتلك العمليات ونفّذها هو منظمة القاعدة، وأن 21% يعتقدون أنه لا تزال هناك مناطق ظل وغموض، وأنهم ليسوا واثقين تماماً أن من خطّط هذه العمليات ونفذها، هي منظمة القاعدة وحدها، بل هناك جهات في قلب الإدارة الأميركية نفسها، أمنية واستخبارية، ضالعة.
وثمّة من يرى، وإن كانت فئته قليلة العدد هنا، أن أحفاد "النورانيين" الفرنسيين، ممن هاجروا من فرنسا إلى الولايات المتحدة، وقد تخفّوا بثوب إسلاموي دعائي، هذه المرة، هم وراء مؤامرة "11 سبتمبر"، "عقاباً للأميركيين على استهتارهم بالقيم الدينية المسيحية، ودعوة / درس لهم، كي يستفيقوا من ضلالهم، ويتّبعوا خطّ الإيمان المسيحي"، على حد تعبير الباحث اللبناني المقيم في فرنسا، جورح مطانيوس البواري، والذي يردف: "أن الفرنسيين، خصوصاً أهل الريف منهم، هم من يصدّقون على الفور المرويات الرائجة لـ"المؤمراتية"، ويسهمون في ترسيخها".
أما حكاية الشعب الأميركي مع المؤامرة ونظريتها، فتأخذ أبعاداً أخرى، أكثر راديكالية، وأكثر توظيفاً سياسياً ممنهجاً، حتى في صفوف العقلانيين منهم؛ ولنا مثالاً على ذلك في مسألة المكارثية عينها. والمكارثية، للتذكير، حقبة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة، من 1950 إلى 1953، في زمنٍ كانت فيه الحرب الباردة تشتدّ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الذي كان قد دخل في طور التجارب النووية منذ 1949. في الوقت نفسه، كانت الحرب الكورية قد بدأت، ووصل ماو تسي تونغ إلى رأس النظام الشيوعي في الصين الشعبية، وبلغ التحدّي المتبادل بين الأقطاب الدوليين ذروته.
في هذا المناخ الجيوسياسي الذي تجلّى فيه الحقد الأميركي على الكتلة السوفييتية، على شكل هستيريا جنونية من العدو الشيوعي، أفلح جوزيف مكارثي، سيناتور مقاطعة وسكنسون في فبراير/ شباط 1950، في زرع وهم "المؤامرة الكبرى" التي تتهدّد البلاد وتزرع الرعب في صفوف الأميركيين الحرصاء على عالمهم الحر. ونجح هذا السيناتور الجمهوري، تبعاً لذلك، في تلفيق تهمةٍ مفادها بأن ثمّة مناصب رفيعة ووسيطة داخل الإدارة الأميركية بالذات، يقوم أصحابها بإعداد مؤامرة شيوعية خطيرة وتنفيذها، لقلب نظام الحكم في الولايات المتحدة الأميركية؛ فشنّ، بمساعدة قوى أميركية معادية للشيوعية، حملة اعتقالاتٍ ومحاكمات واسعة، تميّزت ببطشٍ لا هوادة فيه، وانصبّت على "الأميركيين الحمر" المتهمين بالتعاون والتواطؤ مع "العدو الأحمر" السوفييتي والصين الشعبية الحمراء، مستعيناً بالإعلام الأميركي، لتأليب الرأي العام، متوسلاً الوشاية والنميمة؛ فكان يكفي وصول أي إخبار، أو دسّ على أيٍّ كان، حتى يجري اعتقاله ومحاكمته، والحكم عليه بالسجن أو بالإعدام.
وجدت الولايات المتحدة في 1952 نفسها في قلب هذه الحقبة السوداء؛ فكانت حملات الدهم والتفتيش لا تحتاج إلى أي إذن قانوني أو قضائي؛ وكانت تجري على نطاق واسع، ولا تستثني أحداً، مهما كان منصبه، أو الشهرة التي يتمتع بها، أو الوظيفة التي يشغلها. وكان الغرض منها تطهير الإدارة والبلاد من "العملاء الشيوعيين" المندسّين فيها. وطاولت حملات الدهم والتفتيش مراكز الأبحاث والجامعات والمدارس والمفكّرين والكتّاب والفنانين وأصحاب المهن الحرة. كما انصبّت النقمة، كذلك، على الممثلين والمسرحيين والشعراء والمطربين. واستطاعت الحملة المكارثية إقصاء موظفين كثيرين من مناصبهم، بلغ تعدادهم 11 ألفا، على الرغم من الوقائع المزوّرة والاتهامات المضخّمة والمختلفة التي كانت توجّه إليهم.
وغالباً ما كانت هيئة المحققين التي سميّت لجنة مكارثي تفتقد الأدلة القانونية لإثبات تهمة "الخيانة العظمى"؛ ومعظم الذين دينوا بهذه التهمة لم يكن في سجل محاكمتهم أي دليل قاطع يثبت التهمة الموجّهة إليهم. فحُكم على أشخاصٍ كثيرين بالسجن، لمجرد قولهم إن في ممارسات "لجنة مكارثي" خرقا للحريات الفردية، ولاسيما حرية التعبير.
ومن أشهر المحاكمات التي أجرتها اللجنة محاكمة السيد والسيدة روزنبرغ المتهمين بتسريب أسرار القنبلة الذرية إلى الاتحاد السوفييتي، وحًكم عليهما بالإعدام في يونيو/ حزيران 1953. ومن الذين طاولتهم التهم العشوائية للجنة مكارثي ألبيرت آينشتاين ومارتن لوثر كينغ وشارلي شابلن وآرثر ميللر.. وغيرهم.
ولم تبدأ سطوة مكارثي في الاضمحلال إلّا عندما قرّر محاكمة قادة كبار في الجيش الأميركي، فكان ردّ فعل البنتاغون عنيفاً للغاية، مستفيداً من دعم إيزنهاور الذي كان قد وصل إلى سدّة الرئاسة الأميركية في 1952، وكان غير راضِ ألبتة عن أعمال مكارثي ولجنته، وبدأت إدارته بمضايقة هذه اللجنة، وقصقصة أجنحتها في كل الإدارات، بعدما استفحل أمرها شعبياً، وقامت أصواتٌ كثيرة إعلامية، وغير إعلامية، ضدّها، اتهمت السيناتور مكارثي نفسه بالفساد والرشى والتزوير، وحُوكم الرجل على هذا الأساس، حتى وجد نفسه محاصراً لا يلوي على شيء؛ فأدمن الخمرة وتعاطى المخدّرات، حتى مات بداء التهاب الكبد في 1957.
هكذا كانت الحقبة المكارثية فجوةً كبرى في الممارسة الديمقراطية الأميركية، لا لشيء، إلّا لأنها، في جلّها، قامت على المؤامرة، ونظرية المؤامرة، وإلى حدودٍ تكاد لا تصدّق، إذ اتهم مكارثي الشيوعية، مثلاً، بأنها "دينٌ جديد يستهدف ديننا المسيحي، وعلينا، بالتالي، محاربته وسحقه بكل ما أوتينا من طاقة ووسائل".
و"النورانيون"، في المناسبة، جمعية سرية، أسّسها يسوعي قديم، يدعى آدم فايسهوبت في العام 1776، وانتهى أمرها في العام 1789؛ وأصبحت، في العصور الحديثة، مرادفاً لثقافة التآمر، وتفشى مصطلح "نظرية المؤامرة".. من الثورات الفاشلة والناجحة، إلى اغتيال كينيدي، وحتى إلى هجمات 11 سبتمبر.. والحبل على الجرار.
وثمّة أمر ملموس أكثر في هذا المضمار، هو استطلاع مركز إيفوب الفرنسي أيضاً، وجرى نشره في 25 يناير/ كانون الثاني 2015، بعدما استقصى آراء مواطنين فرنسيين حول عمليات 11 سبتمبر 2001، وتبيّن للمستطلعين أن 56% من المستطلعين فقط يعتبرون أن منْ خطّط لتلك العمليات ونفّذها هو منظمة القاعدة، وأن 21% يعتقدون أنه لا تزال هناك مناطق ظل وغموض، وأنهم ليسوا واثقين تماماً أن من خطّط هذه العمليات ونفذها، هي منظمة القاعدة وحدها، بل هناك جهات في قلب الإدارة الأميركية نفسها، أمنية واستخبارية، ضالعة.
وثمّة من يرى، وإن كانت فئته قليلة العدد هنا، أن أحفاد "النورانيين" الفرنسيين، ممن هاجروا من فرنسا إلى الولايات المتحدة، وقد تخفّوا بثوب إسلاموي دعائي، هذه المرة، هم وراء مؤامرة "11 سبتمبر"، "عقاباً للأميركيين على استهتارهم بالقيم الدينية المسيحية، ودعوة / درس لهم، كي يستفيقوا من ضلالهم، ويتّبعوا خطّ الإيمان المسيحي"، على حد تعبير الباحث اللبناني المقيم في فرنسا، جورح مطانيوس البواري، والذي يردف: "أن الفرنسيين، خصوصاً أهل الريف منهم، هم من يصدّقون على الفور المرويات الرائجة لـ"المؤمراتية"، ويسهمون في ترسيخها".
أما حكاية الشعب الأميركي مع المؤامرة ونظريتها، فتأخذ أبعاداً أخرى، أكثر راديكالية، وأكثر توظيفاً سياسياً ممنهجاً، حتى في صفوف العقلانيين منهم؛ ولنا مثالاً على ذلك في مسألة المكارثية عينها. والمكارثية، للتذكير، حقبة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة، من 1950 إلى 1953، في زمنٍ كانت فيه الحرب الباردة تشتدّ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الذي كان قد دخل في طور التجارب النووية منذ 1949. في الوقت نفسه، كانت الحرب الكورية قد بدأت، ووصل ماو تسي تونغ إلى رأس النظام الشيوعي في الصين الشعبية، وبلغ التحدّي المتبادل بين الأقطاب الدوليين ذروته.
في هذا المناخ الجيوسياسي الذي تجلّى فيه الحقد الأميركي على الكتلة السوفييتية، على شكل هستيريا جنونية من العدو الشيوعي، أفلح جوزيف مكارثي، سيناتور مقاطعة وسكنسون في فبراير/ شباط 1950، في زرع وهم "المؤامرة الكبرى" التي تتهدّد البلاد وتزرع الرعب في صفوف الأميركيين الحرصاء على عالمهم الحر. ونجح هذا السيناتور الجمهوري، تبعاً لذلك، في تلفيق تهمةٍ مفادها بأن ثمّة مناصب رفيعة ووسيطة داخل الإدارة الأميركية بالذات، يقوم أصحابها بإعداد مؤامرة شيوعية خطيرة وتنفيذها، لقلب نظام الحكم في الولايات المتحدة الأميركية؛ فشنّ، بمساعدة قوى أميركية معادية للشيوعية، حملة اعتقالاتٍ ومحاكمات واسعة، تميّزت ببطشٍ لا هوادة فيه، وانصبّت على "الأميركيين الحمر" المتهمين بالتعاون والتواطؤ مع "العدو الأحمر" السوفييتي والصين الشعبية الحمراء، مستعيناً بالإعلام الأميركي، لتأليب الرأي العام، متوسلاً الوشاية والنميمة؛ فكان يكفي وصول أي إخبار، أو دسّ على أيٍّ كان، حتى يجري اعتقاله ومحاكمته، والحكم عليه بالسجن أو بالإعدام.
وجدت الولايات المتحدة في 1952 نفسها في قلب هذه الحقبة السوداء؛ فكانت حملات الدهم والتفتيش لا تحتاج إلى أي إذن قانوني أو قضائي؛ وكانت تجري على نطاق واسع، ولا تستثني أحداً، مهما كان منصبه، أو الشهرة التي يتمتع بها، أو الوظيفة التي يشغلها. وكان الغرض منها تطهير الإدارة والبلاد من "العملاء الشيوعيين" المندسّين فيها. وطاولت حملات الدهم والتفتيش مراكز الأبحاث والجامعات والمدارس والمفكّرين والكتّاب والفنانين وأصحاب المهن الحرة. كما انصبّت النقمة، كذلك، على الممثلين والمسرحيين والشعراء والمطربين. واستطاعت الحملة المكارثية إقصاء موظفين كثيرين من مناصبهم، بلغ تعدادهم 11 ألفا، على الرغم من الوقائع المزوّرة والاتهامات المضخّمة والمختلفة التي كانت توجّه إليهم.
وغالباً ما كانت هيئة المحققين التي سميّت لجنة مكارثي تفتقد الأدلة القانونية لإثبات تهمة "الخيانة العظمى"؛ ومعظم الذين دينوا بهذه التهمة لم يكن في سجل محاكمتهم أي دليل قاطع يثبت التهمة الموجّهة إليهم. فحُكم على أشخاصٍ كثيرين بالسجن، لمجرد قولهم إن في ممارسات "لجنة مكارثي" خرقا للحريات الفردية، ولاسيما حرية التعبير.
ومن أشهر المحاكمات التي أجرتها اللجنة محاكمة السيد والسيدة روزنبرغ المتهمين بتسريب أسرار القنبلة الذرية إلى الاتحاد السوفييتي، وحًكم عليهما بالإعدام في يونيو/ حزيران 1953. ومن الذين طاولتهم التهم العشوائية للجنة مكارثي ألبيرت آينشتاين ومارتن لوثر كينغ وشارلي شابلن وآرثر ميللر.. وغيرهم.
ولم تبدأ سطوة مكارثي في الاضمحلال إلّا عندما قرّر محاكمة قادة كبار في الجيش الأميركي، فكان ردّ فعل البنتاغون عنيفاً للغاية، مستفيداً من دعم إيزنهاور الذي كان قد وصل إلى سدّة الرئاسة الأميركية في 1952، وكان غير راضِ ألبتة عن أعمال مكارثي ولجنته، وبدأت إدارته بمضايقة هذه اللجنة، وقصقصة أجنحتها في كل الإدارات، بعدما استفحل أمرها شعبياً، وقامت أصواتٌ كثيرة إعلامية، وغير إعلامية، ضدّها، اتهمت السيناتور مكارثي نفسه بالفساد والرشى والتزوير، وحُوكم الرجل على هذا الأساس، حتى وجد نفسه محاصراً لا يلوي على شيء؛ فأدمن الخمرة وتعاطى المخدّرات، حتى مات بداء التهاب الكبد في 1957.
هكذا كانت الحقبة المكارثية فجوةً كبرى في الممارسة الديمقراطية الأميركية، لا لشيء، إلّا لأنها، في جلّها، قامت على المؤامرة، ونظرية المؤامرة، وإلى حدودٍ تكاد لا تصدّق، إذ اتهم مكارثي الشيوعية، مثلاً، بأنها "دينٌ جديد يستهدف ديننا المسيحي، وعلينا، بالتالي، محاربته وسحقه بكل ما أوتينا من طاقة ووسائل".