قال صحفي لزميله بعد التاسع من نيسان / أبريل 2003: "لا يتطلب تحقيق حلمنا القديم في طباعة جريدة سوى ألف دولار، وهي فرصة لا ندري حتامَ تدوم. فلنتوكل على الله وننجز ما كان محض خيال". ضحك الزميل قائلاً: "ومن سيقرأ يا صديقي؟ أما ترى الناس منشغلةً بتوفير أمنها وقوت عيالها؟ من يشتري جريدةً بثمن كيلوين من التفاح أو أربع كيلوات من الطماطم؟ بينما يستطيع أن يقتني العشرات من الجرائد والمجلات الملونة التي تصدرها الأحزاب وتوزعها المدرعات الأميركية مجانًا في الطرقات؟".
قبل عام 2003، أي قبل الاحتلال الأميركي للعراق، كانت قوانين المطبوعات السياسية صارمة، وتمسكها أجهزة الدولة بيد من حديد، وحتى ما يطبع من مطبوعات على أنه من نتاج القطاع الخاص، كان يخضع للرقابة، ولو كان محرروها قريبين من نبض الدولة. أما المطبوعات العلمية والأدبية فقد خنقها الحصار على الورق والحبر الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق بعقوباتها الشاملة على العراق سنة 1990، التي استمرّت لثلاث عشرة سنة حتى 2003.
وعندما أطيحت الدولة، أصبحت الطباعة حرّة إلى حدّ الانفلات، وصار العراقيون أحرارًا بنشر ما يشاؤون، فالقانون يكفل لهم "حرية التعبير". لكن المخاوف تبدأ بعد التوزيع، فإن أغضبَ منشورٌ ما جماعة مسلحة متسلّطة، سيكون حساب الكاتب والناشر عسيرًا متمثلاً بالاغتيال وحرق المبنى أو السجن والضرب المبرّح بالعصي الغلاظ وأسلاك الكهرباء والركلات واللكمات والتهديد بالاغتصاب وهو على هؤلاء "القمعيين" هيّن. ومن قتلى الرأي نقيب الصحفيين شهاب التميمي الذي لم تحدّد هوية قاتليه، وكذلك مئات من الصحفيين والكتّاب والنشطاء قتلوا في عموم العراق الجديد، وقاتلهم معروف لكنه فوق مستوى المساءلة.
الكاتب العراقي الساخر علي السوداني الذي هرب في التسعينيات من مجاعة الحصار إلى الأردن، وسكن غرفة في مسجد، لم يرقه ما حصل من حرية مزعومة في عام 2003. لكن تمّ إقناعه بوساطة أصدقاء، بأنه سيكتب للرئيس فلان في جريدته، وأن هذا الرئيس هو عرّاب الحرية الجديدة في عراق جديد. فاقتنع الكاتب وعاد إلى بغداده التي افتقدها لعقدٍ من الزمان، وصار ينشر أفكاره الوطنية بلغته الساخرة المعروفة لأيام قليلة، فوجئ بعدها بقوّة من حماية الرئيس تحاصره في مطبخ بيته وتلقنه درسًا عمليًا لم ينسه بعد، عن وقاحته في نشر ما يخالف مشاريع السيد الرئيس ورؤسائه عبر البحار. وقد جعل ذلك الدرس علي السوداني يعود بأقصى سرعة إلى حضن عمّان لينشر منها أفكاره المضحكة المبكية، يدوّنها بما فيها من شتائم عسى أن تنشرها جريدة ما على صفحتها الأخيرة بلا تعديل.
اقرأ أيضاً: كوابيس العراق الملوّنة
في محاضرة له في الجامعة العراقية، أثنى الأستاذ المساعد والباحث عدي عطا حمدي على نتاج وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قائلاً: "إن عدد المجلات العلمية الدورية في العراق هو مئتان وإحدى وأربعون دورية، تصدر عن خمس وثلاثين مؤسسة تابعة للوزارة. نُشر فيها أكثر من خمسين ألف بحث ومقالة علمية، وينفق عليها من ميزانية تبلغ خمسة وأربعين مليون دولار سنويًا".
واسترسل الباحث العراقي بمقارنات معظمها بين البحث العلمي في العراق والصين، إلى أن وصل إلى نتيجة مخيبة لآمال متابعي بحثه: "يبلغ الاستشهاد بالبحوث الإيرانية خمسًا وثلاثين مرّة ضعف الاستشهاد بالبحوث العراقية. ويعزو سبب ذلك إلى أمرين اثنين؛ أوّلهما أن الباحثين في العالم يثقون بالبحوث الإيرانية أكثر، وثانيهما أن الباحثين الإيرانيين تمكّنوا من إبراز بحوثهم".
وفي الحالتين، فإن ما أُنفق على البحث العلمي في العراق من مبالغ طائلة، بلغ قرابة نصف مليار دولار، خلال اثني عشر عاما، فقد بقي محليًا، بالرغم من نشره من دون مقابل على شبكة الإنترنت.
ولا تبدو وزارة الثقافة العراقية معنيةُ بنشر الإبداع العراقي، فلقد تركت الأمر على ما يبدو للقطاع الخاصّ ودور نشره ومطابعه، وهي ليست بالمستوى المأمول بالنسبة للكتّاب العراقيين الذين باتوا ينشرون في بلدان أخرى مثل الأردن ومصر، وقبلهما سورية.
وفي أمسية أدبية، التقى عدد من الشعراء والقاصين، ومن بينهم كاتب هذه السطور، وناقشوا وضع النشر في بلادهم، ملاحظين أن "وزارة الثقافة العراقية تنفق مبالغ ضخمة على مهرجانات مسيّسة، وتستقدم إليها شعراء عربا مغمورين. ولو أنها أنفقت تلك المبالغ على طباعة كتابات العراقيين، لانتشلتهم من واقع الإهمال الذي يعيشونه. كيف لا ووزيرها - بالوكالة - لسنين طوال هو وزير الدفاع؟. فحتى البلدان الفقيرة تطبع لكتّابها، بل ولأشباه الكتّاب فيها أيضًا، كتابًا كلّ سنة أو سنتين، بينما حكومتنا لا تفكّر بنا".
وهنا يقع الكاتب العراقي فريسةً لجشع هؤلاء الناشرين وأحيانًا لعمليات نصب واحتيال، إلى الحدّ الذي دفع المؤلّفين والكتاب إلى إطلاق تسمية "الناشلين" على فئة من الناشرين الذين يستغلّونهم بشطارة التاجر الذي يعرف "من أين تؤكل كتف" الكاتب، ويقرّ هذا الأخير بأنه ساذج في الأمور المالية وغير عارف بكيفية "التفاوض" على الكلفة وعدد النسخ، والأنكى إن كانت تلك الدار، دارًا حقيقة للنشر والتوزيع، كما يزعم أصحابها".
وإذ يتابع، كاتب هذه السطور مسار نشر الكتّاب العراقيين كتبهم على نفقتهم، فقد تبيّن أن معدل ما ينفقه المؤلّف على الكتاب يبلغ قرابة الألف دولار، يزيد أو ينقص قليلاً، وفقًا لحجمه والدولة التي يطبع فيها. ومقابل هذا المبلغ، يسلّمه الناشر ثلاثمائة نسخة من كتابه، ويُفترض أنه يسوّق سبعمائة أخرى من دون الرجوع للمؤلف. لكن، عند التدقيق في الأمر، ظهر أن العدد الحقيقي المطبوع من الكتاب هو خمسمائة نسخة أو أقلّ، وأن الناشر يحرم المؤلّف من الأرباح ولا يقرّ بأرقام المبيعات، فضلًا عن أنه يحتفظ بحقوق النشر لداره، وبذلك تكون خسائر المؤلّف مضاعفة؛ فهو يدفع مبلغًا كبيرًا ولا يستفيد سوى بالقول إنه صاحب المؤلّف أو الكتاب إرضاء لسؤال السائلين: كم كتابًا نشرت؟
مع ذلك، ثمّة دور النشر النزيهة، "تصارح" الكاتب في أنها لا تضمن له تسويق كتاب، زاعمة أن السبب في ذلك، انعدام رغبة القارئ العربي باقتناء الكتب الأدبية، بينما يعود الأمر إلى استحالة توزيع الكتاب وإيصاله إلى القارئ العربي. القليل من هذه الدور توافق على طباعة أعداد أقلّ من النسخ، لكي توفّر على الكاتب نفقات أعداد أكثر، ربما يحار في كيفية توزيعها. ومع أن تكلفة النسخة في هذه الحالة تكون أكبر، إلا أن المبلغ الإجمالي يكون ضمن حدود يمكن دفعها. وثمّة دور نشر أخرى، تعرض على الكاتب طباعة الكتاب على نفقتها ومنحه خمسين نسخة، على شرط أن يكون الكاتب مشهورًا وأن يتنازل عن حقوق الطبع.
هذا الواقع المرّ، أدّى إلى ظهور حاجة لتسويق الكتب على مواقع الإنترنت التي تقوم بإيصاله إلى القارئ، أو تسمح بقراءته وتحميله من الموقع مقابل ثمن يُدفع هو الآخر إلكترونيًا. تواجه كلّ هذه التعقيدات الكاتب العراقي، فيعزف عن النشر الورقي، مرغمًا، رغم إدراكه لضرورته.
وقد يكون الأمر مختلفًا، حين يتعلّق بمطبوعات ذات طابع تعليمي، وبشكل خاصّ تلك الكتب التي تشبه مناهج التعليم الجامعي، إذ إن الطلب عليها مرتفع، وهي قابلة للتسويق وذات مردود مالي. ويرى عدد من المؤلفين أن الطلب عليها يزداد، حين تشترط الجامعة نفسها أن تكون مرجعًا (ولو أنها خارج المنهاج المقرّر)، لا سيما إن كان المؤلّف هو الأستاذ الذي يدرّس المادة أو يرأس القسم في الجامعة.
ولكن بغض النظر عن "نظرية المؤامرة" هذه، فإن الكتاب الأكاديمي الجيد، مطلوب ورائج أكثر بكثير من الكتب الأدبية التي يضطر مؤلّفوها لتوزيعها مجانًا، لتُركن بعد ذلك على الرفوف، في ظلّ الظروف المادية الصعبة في العراق. إلا أن الإبداع العراقي لم يتوقّف رغم كل هذه الصعوبات، فدور النشر في العراق والأردن ومصر والمغرب تطبع ما يكتبه العراقيون، وإن كان محدودًا.
بيد أن الاتجاه صوب الإنترنت وبشكل خاصّ المواقع المجانية التي لا تدفع ولا تتقاضى ثمنًا للنشر، وكذلك المنتديات، ازداد في الآونة الأخيرة. والراصد لصفحات التواصل الاجتماعي، لن تفوته ملاحظة أعداد القرّاء الكبيرة، الأمر الذي قد يبشّر بواقع يتحدى التردّي والفقر وقلة الحيلة في الوصول إلى الكتاب بسبب سوء التوزيع، وهو، وإن كان لا يعوض عن الطباعة الورقية، إلا إنه بديلٌ رديف لا بأس به.
مع ذلك، يبقى الكتّاب العراقيون في انتظار من يقدّم لهم الدعم من مؤسسات غير حكومية، وإن عملت على منهج تعاوني بأرباح بسيطة في غياب الدعم الحكومي وضعف الإمكانات المادية الشخصية.
قبل عام 2003، أي قبل الاحتلال الأميركي للعراق، كانت قوانين المطبوعات السياسية صارمة، وتمسكها أجهزة الدولة بيد من حديد، وحتى ما يطبع من مطبوعات على أنه من نتاج القطاع الخاص، كان يخضع للرقابة، ولو كان محرروها قريبين من نبض الدولة. أما المطبوعات العلمية والأدبية فقد خنقها الحصار على الورق والحبر الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق بعقوباتها الشاملة على العراق سنة 1990، التي استمرّت لثلاث عشرة سنة حتى 2003.
وعندما أطيحت الدولة، أصبحت الطباعة حرّة إلى حدّ الانفلات، وصار العراقيون أحرارًا بنشر ما يشاؤون، فالقانون يكفل لهم "حرية التعبير". لكن المخاوف تبدأ بعد التوزيع، فإن أغضبَ منشورٌ ما جماعة مسلحة متسلّطة، سيكون حساب الكاتب والناشر عسيرًا متمثلاً بالاغتيال وحرق المبنى أو السجن والضرب المبرّح بالعصي الغلاظ وأسلاك الكهرباء والركلات واللكمات والتهديد بالاغتصاب وهو على هؤلاء "القمعيين" هيّن. ومن قتلى الرأي نقيب الصحفيين شهاب التميمي الذي لم تحدّد هوية قاتليه، وكذلك مئات من الصحفيين والكتّاب والنشطاء قتلوا في عموم العراق الجديد، وقاتلهم معروف لكنه فوق مستوى المساءلة.
الكاتب العراقي الساخر علي السوداني الذي هرب في التسعينيات من مجاعة الحصار إلى الأردن، وسكن غرفة في مسجد، لم يرقه ما حصل من حرية مزعومة في عام 2003. لكن تمّ إقناعه بوساطة أصدقاء، بأنه سيكتب للرئيس فلان في جريدته، وأن هذا الرئيس هو عرّاب الحرية الجديدة في عراق جديد. فاقتنع الكاتب وعاد إلى بغداده التي افتقدها لعقدٍ من الزمان، وصار ينشر أفكاره الوطنية بلغته الساخرة المعروفة لأيام قليلة، فوجئ بعدها بقوّة من حماية الرئيس تحاصره في مطبخ بيته وتلقنه درسًا عمليًا لم ينسه بعد، عن وقاحته في نشر ما يخالف مشاريع السيد الرئيس ورؤسائه عبر البحار. وقد جعل ذلك الدرس علي السوداني يعود بأقصى سرعة إلى حضن عمّان لينشر منها أفكاره المضحكة المبكية، يدوّنها بما فيها من شتائم عسى أن تنشرها جريدة ما على صفحتها الأخيرة بلا تعديل.
اقرأ أيضاً: كوابيس العراق الملوّنة
في محاضرة له في الجامعة العراقية، أثنى الأستاذ المساعد والباحث عدي عطا حمدي على نتاج وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قائلاً: "إن عدد المجلات العلمية الدورية في العراق هو مئتان وإحدى وأربعون دورية، تصدر عن خمس وثلاثين مؤسسة تابعة للوزارة. نُشر فيها أكثر من خمسين ألف بحث ومقالة علمية، وينفق عليها من ميزانية تبلغ خمسة وأربعين مليون دولار سنويًا".
واسترسل الباحث العراقي بمقارنات معظمها بين البحث العلمي في العراق والصين، إلى أن وصل إلى نتيجة مخيبة لآمال متابعي بحثه: "يبلغ الاستشهاد بالبحوث الإيرانية خمسًا وثلاثين مرّة ضعف الاستشهاد بالبحوث العراقية. ويعزو سبب ذلك إلى أمرين اثنين؛ أوّلهما أن الباحثين في العالم يثقون بالبحوث الإيرانية أكثر، وثانيهما أن الباحثين الإيرانيين تمكّنوا من إبراز بحوثهم".
وفي الحالتين، فإن ما أُنفق على البحث العلمي في العراق من مبالغ طائلة، بلغ قرابة نصف مليار دولار، خلال اثني عشر عاما، فقد بقي محليًا، بالرغم من نشره من دون مقابل على شبكة الإنترنت.
ولا تبدو وزارة الثقافة العراقية معنيةُ بنشر الإبداع العراقي، فلقد تركت الأمر على ما يبدو للقطاع الخاصّ ودور نشره ومطابعه، وهي ليست بالمستوى المأمول بالنسبة للكتّاب العراقيين الذين باتوا ينشرون في بلدان أخرى مثل الأردن ومصر، وقبلهما سورية.
وفي أمسية أدبية، التقى عدد من الشعراء والقاصين، ومن بينهم كاتب هذه السطور، وناقشوا وضع النشر في بلادهم، ملاحظين أن "وزارة الثقافة العراقية تنفق مبالغ ضخمة على مهرجانات مسيّسة، وتستقدم إليها شعراء عربا مغمورين. ولو أنها أنفقت تلك المبالغ على طباعة كتابات العراقيين، لانتشلتهم من واقع الإهمال الذي يعيشونه. كيف لا ووزيرها - بالوكالة - لسنين طوال هو وزير الدفاع؟. فحتى البلدان الفقيرة تطبع لكتّابها، بل ولأشباه الكتّاب فيها أيضًا، كتابًا كلّ سنة أو سنتين، بينما حكومتنا لا تفكّر بنا".
وهنا يقع الكاتب العراقي فريسةً لجشع هؤلاء الناشرين وأحيانًا لعمليات نصب واحتيال، إلى الحدّ الذي دفع المؤلّفين والكتاب إلى إطلاق تسمية "الناشلين" على فئة من الناشرين الذين يستغلّونهم بشطارة التاجر الذي يعرف "من أين تؤكل كتف" الكاتب، ويقرّ هذا الأخير بأنه ساذج في الأمور المالية وغير عارف بكيفية "التفاوض" على الكلفة وعدد النسخ، والأنكى إن كانت تلك الدار، دارًا حقيقة للنشر والتوزيع، كما يزعم أصحابها".
وإذ يتابع، كاتب هذه السطور مسار نشر الكتّاب العراقيين كتبهم على نفقتهم، فقد تبيّن أن معدل ما ينفقه المؤلّف على الكتاب يبلغ قرابة الألف دولار، يزيد أو ينقص قليلاً، وفقًا لحجمه والدولة التي يطبع فيها. ومقابل هذا المبلغ، يسلّمه الناشر ثلاثمائة نسخة من كتابه، ويُفترض أنه يسوّق سبعمائة أخرى من دون الرجوع للمؤلف. لكن، عند التدقيق في الأمر، ظهر أن العدد الحقيقي المطبوع من الكتاب هو خمسمائة نسخة أو أقلّ، وأن الناشر يحرم المؤلّف من الأرباح ولا يقرّ بأرقام المبيعات، فضلًا عن أنه يحتفظ بحقوق النشر لداره، وبذلك تكون خسائر المؤلّف مضاعفة؛ فهو يدفع مبلغًا كبيرًا ولا يستفيد سوى بالقول إنه صاحب المؤلّف أو الكتاب إرضاء لسؤال السائلين: كم كتابًا نشرت؟
مع ذلك، ثمّة دور النشر النزيهة، "تصارح" الكاتب في أنها لا تضمن له تسويق كتاب، زاعمة أن السبب في ذلك، انعدام رغبة القارئ العربي باقتناء الكتب الأدبية، بينما يعود الأمر إلى استحالة توزيع الكتاب وإيصاله إلى القارئ العربي. القليل من هذه الدور توافق على طباعة أعداد أقلّ من النسخ، لكي توفّر على الكاتب نفقات أعداد أكثر، ربما يحار في كيفية توزيعها. ومع أن تكلفة النسخة في هذه الحالة تكون أكبر، إلا أن المبلغ الإجمالي يكون ضمن حدود يمكن دفعها. وثمّة دور نشر أخرى، تعرض على الكاتب طباعة الكتاب على نفقتها ومنحه خمسين نسخة، على شرط أن يكون الكاتب مشهورًا وأن يتنازل عن حقوق الطبع.
هذا الواقع المرّ، أدّى إلى ظهور حاجة لتسويق الكتب على مواقع الإنترنت التي تقوم بإيصاله إلى القارئ، أو تسمح بقراءته وتحميله من الموقع مقابل ثمن يُدفع هو الآخر إلكترونيًا. تواجه كلّ هذه التعقيدات الكاتب العراقي، فيعزف عن النشر الورقي، مرغمًا، رغم إدراكه لضرورته.
وقد يكون الأمر مختلفًا، حين يتعلّق بمطبوعات ذات طابع تعليمي، وبشكل خاصّ تلك الكتب التي تشبه مناهج التعليم الجامعي، إذ إن الطلب عليها مرتفع، وهي قابلة للتسويق وذات مردود مالي. ويرى عدد من المؤلفين أن الطلب عليها يزداد، حين تشترط الجامعة نفسها أن تكون مرجعًا (ولو أنها خارج المنهاج المقرّر)، لا سيما إن كان المؤلّف هو الأستاذ الذي يدرّس المادة أو يرأس القسم في الجامعة.
ولكن بغض النظر عن "نظرية المؤامرة" هذه، فإن الكتاب الأكاديمي الجيد، مطلوب ورائج أكثر بكثير من الكتب الأدبية التي يضطر مؤلّفوها لتوزيعها مجانًا، لتُركن بعد ذلك على الرفوف، في ظلّ الظروف المادية الصعبة في العراق. إلا أن الإبداع العراقي لم يتوقّف رغم كل هذه الصعوبات، فدور النشر في العراق والأردن ومصر والمغرب تطبع ما يكتبه العراقيون، وإن كان محدودًا.
بيد أن الاتجاه صوب الإنترنت وبشكل خاصّ المواقع المجانية التي لا تدفع ولا تتقاضى ثمنًا للنشر، وكذلك المنتديات، ازداد في الآونة الأخيرة. والراصد لصفحات التواصل الاجتماعي، لن تفوته ملاحظة أعداد القرّاء الكبيرة، الأمر الذي قد يبشّر بواقع يتحدى التردّي والفقر وقلة الحيلة في الوصول إلى الكتاب بسبب سوء التوزيع، وهو، وإن كان لا يعوض عن الطباعة الورقية، إلا إنه بديلٌ رديف لا بأس به.
مع ذلك، يبقى الكتّاب العراقيون في انتظار من يقدّم لهم الدعم من مؤسسات غير حكومية، وإن عملت على منهج تعاوني بأرباح بسيطة في غياب الدعم الحكومي وضعف الإمكانات المادية الشخصية.