حتى وقتٍ قريب، كان الوضع هادئاً في بحر الصين الجنوبي، قبل أن يتبدّل كل شيء مع الإعلان عن بناء الصين سبع جزر اصطناعية فيه. لم تنتظر بكين قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي، الذي رفض في 12 يوليو/تموز الحالي سيطرتها على أجزاء واسعة من البحر، مانحاً الحق في جزء منه للفيليبين. ومع وصف الصين للقرار بـ"المهزلة"، كان واضحاً، أنه في قمة "آسيان" (رابطة دول جنوب شرق آسيا)، التي انعقدت بين 23 يوليو و26 منه في لاوس، سعت بكين لفرض واقعية جيوسياسية مستندة إلى القوة، على حساب القانون الدولي.
تنبع أهمية بحر الصين الجنوبي، من عاملين أساسيين: الأول، موقعه الجغرافي على خط الحرير البحري بين الشرق الآسيوي، والشرق الأوسط وصولاً إلى أوروبا. مع ما يعنيه ذلك من عبور يومي للسفن والشحنات التجارية. العامل الثاني، هو مشاركة دول معروفة بـ"النمور الآسيوية"، لأجزاء منه. إن مساحة البحر البالغة نحو 3.5 ملايين كيلومتر مربّع، فضلاً عن وجود نحو 7.7 مليارات برميل من النفط فيه، يسمح بتحوّله، وفقاً لقواعد الاشتباك السياسي، إلى ساحة نزاعٍ بين مختلف الدول، وقد تتورّط فيه دول بعيدة عنه جغرافياً، لكنها مرتبطة به اقتصادياً. بالتالي، يبدو أي صدامٍ فيه مقلقاً، بسبب تشابك المصالح الاقتصادية والثقل البشري فيه وامتداده إلى معظم دول العالم.
انتهى الأمر. يُمكن للصين الاستراحة حتى إشعار آخر. الفيليبين، بقيادة رئيسها الجديد رودريغو دوتيرتي، لا تعطي الأولوية للنزاع على بحر الصين الجنوبي. دوتيرتي مشغول بالمصالحة مع الشيوعيين في بلاده، ومحاربة تجار المخدرات والعصابات، كشعارات أساسية في برنامجه الانتخابي. فيتنام وماليزيا وبروناي لن تخوض صراعاً مع الصين، بغياب حليف إقليمي، سواء سياسياً أو عسكرياً. كانوا ينتظرون الموقف الفيليبيني للتعويل عليه. لكن مانيلا بدت هادئة تماماً مع استبعاد تصعيد المواجهة مع بكين. بالتالي فإن الهدوء سيسود في منطقة تعبرها تجارة عالمية بقيمة خمسة ترليونات دولار سنوياً، كثاني خط بحري اكتظاظاً في العالم، بعد خط مضيق دوفر البريطاني.
في القمة كان الأميركيون حاضرين، والروس أيضاً. خرج الطرفان بمواقف تقليدية. وزير الخارجية الأميركي جون كيري، اكتفى بالدعوة لـ"نظام دولي قوامه قواعد تحمي حقوق جميع البلدان، كبيرة كانت أم صغيرة". ويُمكن إدراج الفرملة الأميركية أيضاً، في سياق منع صبّ الزيت على النار، قبل زيارة مرتقبة للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الصين، في سبتمبر/أيلول المقبل، وقد باشرت مستشارة الأمن القومي الأميركية سوزان رايس، زيارة إلى بكين للتمهيد للزيارة بالفعل. لم تعد الإدارة الأميركية فعّالة أخيراً، خصوصاً في الأشهر الأخيرة من عهد أوباما، فمنذ أن اتخذت واشنطن خطوتها بمشاركة القرار السياسي والعسكري في سورية مع الروس، في العام الماضي، كان تكثيف حراكها في منطقة بحر الصين الجنوبي، بمثابة تمهيد لإدارة جديدة، تقوم بما لا تستطيع إدارة أوباما القيام به، تحديداً لجهة ردع الصين عن مواصلة أعمال الردم والبناء في جزر سبراتلي، التي يُمكن للسيطرة عليها، من شطر بحر الصين الجنوبي نارياً، ومنع أي عملية تجارية فيه. وتعزّز هذا الأمر، مع إجراء الجيش الصيني، منذ نحو عشرة أيام، مناورات قبالة إقليم هاينان، في جزر باراسيل، البعيدة عن سبراتلي، لكنها تقع على مسارها.
أما اليابان والهند، الثنائي الأقرب إلى البحر من الشرق ومن الغرب، فقد كانا بعيدين عن المشاورات. الصينيون لم يقبلوا بأي دورٍ ياباني إطلاقاً، حتى أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، لو كانغ، تطرّق إلى وضعية طوكيو بالقول إن "اليابان ليست طرفاً في قضية بحر الصين الجنوبي". ومع إعلان اليابان تأييدها لحكم محكمة العدل في مسألة لجم القضم الصيني للبحر، كان لكانغ ردّاً قاسياً: "إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ اليابان المشين، فإنه ليس لديها الحق في اتهام الصين بشيء". أما الهند، فبدت خارج التطورات الأخيرة، في ترسيخ لسياسة هندية، لا تقوم على التوسّع في مناطق نزاع متعددة الأطراف.
من الواضح أن الوضع هدأ بعد قمة "آسيان"، وقد يكون هادئاً حتى منتصف العام المقبل، بعد وصول رئيس أميركي جديد إلى البيت الأبيض، وتمكين ملفاته الخارجية. بعدها قد يستخدم ورقة بحر الصين الجنوبي، في أي لحظة سياسية، سواء في ملف تايوان أو في موضوع كوريا الشمالية. بالنسبة إلى الصينيين، فإن أهمية البحر الجنوبي اقتصادياً وجغرافياً، تضاهي أهمية ماوتسي تونغ في المسيرة التاريخية والسياسية الصينية.