02 نوفمبر 2024
واشنطن تضع عمّان أمام تحَدِّ وجودي
في إحدى زياراته خلال ربيع العام الجاري منازل شخصيات أردنية، حذر الملك عبدالله الثاني من تداعيات حدثٍ مهم وكبير، سوف تشهده المنطقة في الصيف. والراجح أن الحدث المقصود هو صفقة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المسماة صفقة القرن. وفور تسرّب الأحاديث عن هذه الصفقة، اتجهت الأنظار إلى الجانب الفلسطيني الذي يرفض التواصل مع الولايات المتحدة، قبل التراجع عن التسليم الأميركي بتسمية الاحتلال مدينة القدس عاصمة له، أو أن تعلن الإدارة الأميركية القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين. غير أن الأنظار اتجهت، بصورة أكبر، إلى الأردن، كونه معنياً بصورة مباشرة بأية ترتيبات مستقبلية، تتعلق باللاجئين أو بالقدس أو بالحدود. وقد استقبل الملك عبدالله الثاني في عمّان نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، حيث ألقى الملك على الضيف والوفد المرافق ما سمتها صحافة غربية "محاضرة" عن أبعاد الصراع والتسوية في الشرق الأوسط. كما استقبل الملك مستشار الرئيس الأميركي، جاريد كوشنر، ومبعوثه إلى الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات. وقد رشحت عن تلك الزيارة معلوماتٌ عن أن الصفقة تسعى إلى حل إقليمي تشارك فيه دول عربية عديدة، وكون الصفقة سوف تفتح الباب أمام معالجة الوضع الاقتصادي في الأراضي المحتلة، مع بقائها تحت الاحتلال، وضمناً في الأردن.
في هذه الغضون، يزور العاهل الأردني الولايات المتحدة، في زيارة ابتدأت يوم 25 يونيو/ حزيران، وطالت أكثر من الزيارات الملكية الدورية المعهودة، إذ لم تنته حتى تاريخه (12 يوليو/ تموز). في الأيام الثلاثة الأولى للزيارة، التقى الملك ترامب، ثم نائبه بنس، فوزير الدفاع، ثم وزراء الخارجية والخزينة والتجارة، كما التقى لجانا عسكرية في الكونغرس، وأحيط بترحيب غامر في لقاءاته هذه. وقد أثار طول الزيارة، والتحاق ولي العهد الأمير الحسين بوالده الملك، الانطباع بأن الزيارة ليست كسابقاتها.
وكان مثيرا أن وزير الخارجية، أيمن الصفدي، الذي رافق الملك في زيارته الرسمية، قد صرح في موسكو يوم 4 يوليو/ تموز الجاري، بعد سلسلة لقاءاتٍ، شارك الوزير في جانب منها، عن صفقة القرن: "حين يطرحها الأميركيون سنعطي رأينا حولها". وإن "الأردن لا يستطيع التعليق عليها قبل الاطلاع على تفاصيلها". ومغزى هذه التصريحات أن واشنطن لم تطرح بعد على عمّان صيغة رسمية للصفقة. ومن المعلوم أن الملك يتولى ملف السياسة الخارجية، ولم تصدر عنه مواقف تتطرق إلى الصفقة، ما ينبئ بحالة حذر وتكتم لدى الجانب الأميركي، على الرغم من علاقة الصداقة الوثيقة مع الأردن، ولا يقِلّ الأخير حذراً عن أصحاب الصفقة إزاء هذا التطور الذي ما زال يخضع للتسريبات وجس النبض وتهيئة الأجواء، من دون دخول مرحلة وضع الأوراق على الطاولة. وقد تمسّك الأردن، خلال المناسبات السياسية المهمة، ومنها استقبال الملك رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بموقفه الداعي إلى حل الدولتين، واعتبار القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين، إضافة إلى التمسك بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وفي مقدمها المسجد الأقصى (الحرم القدسي).
وليس من المبالغة القول إن الخطة الأميركية العتيدة سوف تسهم بتشكيل مصير الأردن خلال عقود مقبلة، مثلما سوف تحدّد المصير الفلسطيني. وبالدرجة نفسها، فإن التمسّك الأردني والفلسطيني بالحقوق المرعية دولياً سوف يسهم في تحديد المسار، وفي الحد من التغول على هذه الحقوق. وانطلاقا من موقف الأردن الرافض اعتبار القدس عاصمة للاحتلال، فإن التحفظ على مشتملات صفقة القرن، وعلى الأقل تجاه القدس، سوف يضع الأردن عملياً في موقع التحفظ على الخطة، كما هو حال الموقف الفلسطيني، مع فارق أن عمّان لا تحبذ الخطوة الفلسطينية بالتوقف عن سائر أوجه الاتصال والتواصل مع الإدارة الأميركية، وإن كان لا يتم الإعلان عن ذلك جهاراً. وسبق أن حذر الملك من حالة فراغ سياسي ودبلوماسي. أما الجانب الفلسطيني فما زال متمسّكا بـ "سلاحه" الرمزي بمقاطعة المبعوثين الأميركيين، كونه لا يمتلك أدوات ضغط أخرى ذات شأن (يتم كالعادة تبخيس أثر الاحتجاجات الشعبية والسماح بالقليل منها فقط). فيما ترتدي علاقات الأردن بالولايات المتحدة طابعا معقداً، كون هذا البلد حليفا تقليديا للولايات المتحدة منذ الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين وحتى وصول ترامب إلى البيت الأبيض، فالأردن يعتمد على الولايات المتحدة ضامنا استراتيجيا، وكبلد في منزلة عضو في حلف شمال الأطلسي، من دون أن يتمتع بعضوية رسمية في هذا الحلف، والتعاون العسكري بين البلدين واسع النطاق يشمل مكافحة الإرهاب ويتجاوزها، كما تقدّم واشنطن مساعداتٍ عسكرية واقتصادية دورية للأردن. وفي الوقت نفسه، لا تساعد الولايات المتحدة، بل تعرقل فرص التوصل إلى تسوية، وهو ما يؤجج الرأي العام الأردني. وفي الآونة الأخيرة، وبخصوص القدس، فقد صارح الملك بعض الشخصيات الأردنية بأن الولايات المتحدة "لم تستمع إلى نصائحنا".
والراجح، في ضوء ما تقدّم، وبعد أن استمع الملك في عمّان إلى أفكار وخطوط عريضة عن الخطة من كوشنر وغرينبلات إنه استمع مجدّدا من مضيفيه في واشنطن إلى صيغةٍ شبه نهائية، وغير رسمية للخطة. وأنه أسمع مضيفيه ملاحظاته وتعديلاته على الأفكار الأميركية، استناداً إلى المصالح الأردنية، وهذه متشابكة مع الحقوق الفلسطينية. وأن الأمور في جميع الأحوال، جدّية وتطلبت تمديد الزيارة من غير الإعلان عن مباحثاتٍ إضافية بين الجانبين، بعد السابع والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي. ويسترعي الانتباه أنه، في هذه الأثناء، كانت الاعتصامات الشعبية الاحتجاجية تتجدد في عمّان، ليس بعيدا عن مقر السفارة الإسرائيلية، احتجاجا على عزم قوات الاحتلال السيطرة على منطقة الخان الأحمر شرق القدس، واقتلاع سكانها البدو الذين يمتلكون وثائق ثبوتية لملكية أراضيهم. وسبق أن اندلعت موجة غضب شعبي واسعة النطاق ضد قرار ترامب الشائن بشأن القدس. وفي حال مسّت "صفقة القرن"، كما هو متوقع، بحقوق الأردن وفلسطين، فإن الفرصة تظل مهيأة مجدّدا للحراك الأردني الذي اندلع في النصف الثاني من شهر رمضان، وأدى إلى إسقاط حكومة هاني الملقي. والتحدّي الصعب الذي يواجه القيادة الأردنية يتمثل في الجمع بين الحرص على مصالح البلد، وعلى الحقوق الفلسطينية، مع تفادي المغامرة بمستوى العلاقات مع واشنطن. وهو تحدٍّ جوهري ووجودي، لا تدرك الإدارة الأميركية على الأغلب أبعاده بوضوحٍ كافِ، ويضاف إلى تحدّي التغييرات في جنوب سورية، والهواجس القوية بشأن إمكانية تشكيل جيب إيراني مُموّه هناك.
في هذه الغضون، يزور العاهل الأردني الولايات المتحدة، في زيارة ابتدأت يوم 25 يونيو/ حزيران، وطالت أكثر من الزيارات الملكية الدورية المعهودة، إذ لم تنته حتى تاريخه (12 يوليو/ تموز). في الأيام الثلاثة الأولى للزيارة، التقى الملك ترامب، ثم نائبه بنس، فوزير الدفاع، ثم وزراء الخارجية والخزينة والتجارة، كما التقى لجانا عسكرية في الكونغرس، وأحيط بترحيب غامر في لقاءاته هذه. وقد أثار طول الزيارة، والتحاق ولي العهد الأمير الحسين بوالده الملك، الانطباع بأن الزيارة ليست كسابقاتها.
وكان مثيرا أن وزير الخارجية، أيمن الصفدي، الذي رافق الملك في زيارته الرسمية، قد صرح في موسكو يوم 4 يوليو/ تموز الجاري، بعد سلسلة لقاءاتٍ، شارك الوزير في جانب منها، عن صفقة القرن: "حين يطرحها الأميركيون سنعطي رأينا حولها". وإن "الأردن لا يستطيع التعليق عليها قبل الاطلاع على تفاصيلها". ومغزى هذه التصريحات أن واشنطن لم تطرح بعد على عمّان صيغة رسمية للصفقة. ومن المعلوم أن الملك يتولى ملف السياسة الخارجية، ولم تصدر عنه مواقف تتطرق إلى الصفقة، ما ينبئ بحالة حذر وتكتم لدى الجانب الأميركي، على الرغم من علاقة الصداقة الوثيقة مع الأردن، ولا يقِلّ الأخير حذراً عن أصحاب الصفقة إزاء هذا التطور الذي ما زال يخضع للتسريبات وجس النبض وتهيئة الأجواء، من دون دخول مرحلة وضع الأوراق على الطاولة. وقد تمسّك الأردن، خلال المناسبات السياسية المهمة، ومنها استقبال الملك رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بموقفه الداعي إلى حل الدولتين، واعتبار القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين، إضافة إلى التمسك بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وفي مقدمها المسجد الأقصى (الحرم القدسي).
وليس من المبالغة القول إن الخطة الأميركية العتيدة سوف تسهم بتشكيل مصير الأردن خلال عقود مقبلة، مثلما سوف تحدّد المصير الفلسطيني. وبالدرجة نفسها، فإن التمسّك الأردني والفلسطيني بالحقوق المرعية دولياً سوف يسهم في تحديد المسار، وفي الحد من التغول على هذه الحقوق. وانطلاقا من موقف الأردن الرافض اعتبار القدس عاصمة للاحتلال، فإن التحفظ على مشتملات صفقة القرن، وعلى الأقل تجاه القدس، سوف يضع الأردن عملياً في موقع التحفظ على الخطة، كما هو حال الموقف الفلسطيني، مع فارق أن عمّان لا تحبذ الخطوة الفلسطينية بالتوقف عن سائر أوجه الاتصال والتواصل مع الإدارة الأميركية، وإن كان لا يتم الإعلان عن ذلك جهاراً. وسبق أن حذر الملك من حالة فراغ سياسي ودبلوماسي. أما الجانب الفلسطيني فما زال متمسّكا بـ "سلاحه" الرمزي بمقاطعة المبعوثين الأميركيين، كونه لا يمتلك أدوات ضغط أخرى ذات شأن (يتم كالعادة تبخيس أثر الاحتجاجات الشعبية والسماح بالقليل منها فقط). فيما ترتدي علاقات الأردن بالولايات المتحدة طابعا معقداً، كون هذا البلد حليفا تقليديا للولايات المتحدة منذ الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين وحتى وصول ترامب إلى البيت الأبيض، فالأردن يعتمد على الولايات المتحدة ضامنا استراتيجيا، وكبلد في منزلة عضو في حلف شمال الأطلسي، من دون أن يتمتع بعضوية رسمية في هذا الحلف، والتعاون العسكري بين البلدين واسع النطاق يشمل مكافحة الإرهاب ويتجاوزها، كما تقدّم واشنطن مساعداتٍ عسكرية واقتصادية دورية للأردن. وفي الوقت نفسه، لا تساعد الولايات المتحدة، بل تعرقل فرص التوصل إلى تسوية، وهو ما يؤجج الرأي العام الأردني. وفي الآونة الأخيرة، وبخصوص القدس، فقد صارح الملك بعض الشخصيات الأردنية بأن الولايات المتحدة "لم تستمع إلى نصائحنا".
والراجح، في ضوء ما تقدّم، وبعد أن استمع الملك في عمّان إلى أفكار وخطوط عريضة عن الخطة من كوشنر وغرينبلات إنه استمع مجدّدا من مضيفيه في واشنطن إلى صيغةٍ شبه نهائية، وغير رسمية للخطة. وأنه أسمع مضيفيه ملاحظاته وتعديلاته على الأفكار الأميركية، استناداً إلى المصالح الأردنية، وهذه متشابكة مع الحقوق الفلسطينية. وأن الأمور في جميع الأحوال، جدّية وتطلبت تمديد الزيارة من غير الإعلان عن مباحثاتٍ إضافية بين الجانبين، بعد السابع والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي. ويسترعي الانتباه أنه، في هذه الأثناء، كانت الاعتصامات الشعبية الاحتجاجية تتجدد في عمّان، ليس بعيدا عن مقر السفارة الإسرائيلية، احتجاجا على عزم قوات الاحتلال السيطرة على منطقة الخان الأحمر شرق القدس، واقتلاع سكانها البدو الذين يمتلكون وثائق ثبوتية لملكية أراضيهم. وسبق أن اندلعت موجة غضب شعبي واسعة النطاق ضد قرار ترامب الشائن بشأن القدس. وفي حال مسّت "صفقة القرن"، كما هو متوقع، بحقوق الأردن وفلسطين، فإن الفرصة تظل مهيأة مجدّدا للحراك الأردني الذي اندلع في النصف الثاني من شهر رمضان، وأدى إلى إسقاط حكومة هاني الملقي. والتحدّي الصعب الذي يواجه القيادة الأردنية يتمثل في الجمع بين الحرص على مصالح البلد، وعلى الحقوق الفلسطينية، مع تفادي المغامرة بمستوى العلاقات مع واشنطن. وهو تحدٍّ جوهري ووجودي، لا تدرك الإدارة الأميركية على الأغلب أبعاده بوضوحٍ كافِ، ويضاف إلى تحدّي التغييرات في جنوب سورية، والهواجس القوية بشأن إمكانية تشكيل جيب إيراني مُموّه هناك.