بعد أن صعدت الولايات المتحدة حربها التجارية على المنافس الأكبر لها في الأسواق العالمية، وعاقب رئيسُها شركةَ هواوي ذات المكانة العالية لدى الشعب الصيني، ومَنَعَها من تقديم خدمات الجيل الخامس في بلاده كما العديد من البلدان الأخرى، وحَظَر على الشركات الأميركية التعامل مع مُصنع شبكات الاتصالات الصيني زي تي إي ZTE لمدة سبع سنوات، بدا واضحاً أن شوطاً جديداً من الصدام قد بدأ بين البلدين، ليأتي فيروس كورونا، الذي ظهر في مدينة ووهان، وانتشر في كافة أنحاء المعمورة، وتسبب في وفاة أكثر من 195 ألف أميركي، وإصابة أكثر من 6.5 ملايين غيرهم، ليزيد من المشاعر الأميركية العدائية للصينيين، وينذر بالمزيد من المواجهات بين قطبي عالمنا الاقتصادي المعاصر.
ووفق مجلة "فورين أفيرز"، فإن واشنطن تستعد لحرب تكنولوجية باردة مع الصين لن تتوقف أو يتغير مسارها مهما كانت نتائج سباق الانتخابات القادمة، وأنه بعد ثلاث سنوات ونصف من ولايتها الأولى، قامت إدارة دونالد ترامب، أخيراً بتجميع استراتيجية شاملة للمنافسة التكنولوجية مع الصين.
ومن قطع السلاسل التي تزود عمالقة التكنولوجيا الصينية إلى منع المعاملات معها وصولاً إلى مد الكابلات التي تعتمد عليها الاتصالات تحت سطح البحر، وضعت إدارة ترامب الخطوط العريضة لسياسة التكنولوجيا الأميركية تجاه الصين في المستقبل القريب. وتقوم هذه السياسة على تقييد تدفق التكنولوجيا إلى الصين، وإعادة هيكلة سلاسل التوريد العالمية، والاستثمار في التكنولوجيات الناشئة في الداخل.
ومع تعرضها لضغوط كبيرة خلال الأسابيع الأخيرة، وفي محاولة لتجاوز التضييقات عليها من الولايات المتحدة، بعد أن هدد الرئيس الأميركي بحجب بعض التطبيقات الصينية الشهيرة، مثل تيك توك Tik Tok ووي تشات We Chat في بلاده، بالإضافة إلى استبعاد الشركات الصينية من البورصات الأميركية حال عدم التزامها بالمعايير المحاسبية الأميركية، لا يتوقع أحد أن تقف الصين مكتوفة الأيدي في مواجهة العدوان الأميركي الشرس.
وفي الوقت الذي حظرت فيه إدارة ترامب نقل التقنيات الأميركية المتقدمة إلى الشركات الصينية، وأعادت تنظيم كابلات الاتصالات عبر البحار، وعملت على إعادة هيكلة سلاسل الإمداد العالمية لتكون أقل اعتماداً على الشركات الصينية، وزادت من استثماراتها في شركات التكنولوجيا الناشئة داخل البلاد، بدأت الصين تسابق الزمن من أجل إحداث نقلة نوعية في تصنيع أشباه الموصلات، التي كانت تستورد نسبة كبيرة منها من الولايات المتحدة، كما العديد من المنتجات اللازمة لصناعات التكنولوجيا الأخرى.
وسعياً لتحقيق هذا الهدف، عملت بكين على تعبئة شركات التكنولوجيا الموجودة فيها، وتقوية الروابط مع الدول المشاركة في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، بالإضافة إلى مواصلة حملة التجسس الصناعي الإلكتروني، الأمر الذي مثل "حرباً تكنولوجية باردة" واضحة المعالم، سيتحمل تكلفتها الطرفان بكل تأكيد.
وقدر تقرير حديث صادر عن دويتشه بنك الألماني تكاليف حرب التكنولوجيا بأكثر من 3.5 تريليونات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، وهو ما دفع البلدين باتجاه تسريع التطور التكنولوجي في الداخل، ومن ثم التعامل مع الأمر باعتباره مسألة أمن قومي، حتى إن الصين أصبحت تعد نفسها حالياً لمستقبل لا تعتمد فيه على الولايات المتحدة في تزويدها بالتقنيات الأساسية.
وهذا العام، كشف المؤتمر الشعبي الوطني في الصين عن خطة تستثمر فيها البلديات والمقاطعات والشركات ما يقرب من 1.4 تريليون دولار على مدار السنوات الخمس القادمة في بناء "بنية تحتية جديدة"، من خلال الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات وخدمات الجيل الخامس والإنترنت الصناعي وغيرها من التقنيات الجديدة.
ولم يكن هذا التوجه الصيني جديداً، حيث سعى صناع السياسات الصينيون خلال السنوات السابقة إلى تقليل اعتماد بلادِهم على الولايات المتحدة في صناعة أشباه الموصلات تحديداً.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، أنشأت بكين صندوقًا لتطوير صناعة أشباه الموصلات تصل قيمته إلى 29 مليار دولار، وفي مرحلة لاحقة، قدم المسؤولون الصينيون سياسات أخرى لدعم صناعات الرقائق، تشمل تقديم المزايا الضريبية ودعم البحث والتطوير وتقديم حوافز لشركات أشباه الموصلات الدولية للانتقال إلى الصين.
وفي نفس الاتجاه، عينت شركتان مدعومتان من الحكومة الصينية من مصنعي الرقائق أكثر من 100 مهندس ومدير مخضرم من شركة Taiwan Semiconductor Manufacturing، الشركة الرائدة في صناعة الرقائق في العالم، للمساعدة على اكتساب الخبرات وإحداث النقلة المطلوبة.
وعلى نحو متصل، ومع رفضها التهديدات الأميركية، وتهديدها بالرد بعقوبات مماثلة على الشركات والاستثمارات الأميركية لديها، بدأت بكين في البحث عن بدائل، يمكن من خلالها التحايل على التضييقات الأميركية الأخيرة حال تنفيذها، خاصة بعد فرض واشنطن عقوبات على هونغ كونغ بسبب قانون الأمن القومي الذي شرعته بكين هناك.
وبدأت الشركات الصينية مؤخراً محاولات لمد فروع لها في جارتها الصغيرة سنغافورة، تسمح لها بالانطلاق عالمياً، متخطية قرارات حجب وحظر لا تستهدف إلا تحجيمها، كما بدأت العديد من الشركات الصينية خلال الفترة الأخيرة تكثيف الجهود من أجل الدخول في شراكة مع كيانات مؤسسة في سنغافورة، تسمح لها بتخطي القيود الأميركية، كما تفتح لها نافذة على بلدان جنوب شرق آسيا.
وفي طليعة تلك الشركات جاءت مجموعة آنت Ant Group، التابعة لعملاق تجارة التجزئة الصيني علي بابا، والتي تعد أكبر شركة للتكنولوجيا المالية في العالم وتتجاوز قيمتها 150 مليار دولار، وشركة هايتونغ للأوراق المالية، ثاني أكبر شركة سمسرة في الصين، بالإضافة إلى البنك الرقمي وي بنك WeBank، التابع لإمبراطور التقنيات المتقدمة تنسنت.