ما عدا فيض التغطية الإعلامية التي أبرزت جانبها الإنساني المفجع، توزعت الردود الأميركية على التطورات المأساوية لمعركة حلب بين الأسف البارد والتحسّر المزيف الأكثر بلادة؛ فإدارة الرئيس باراك أوباما تعاملت مع الحدث الذي توقعته، كمن يلوك خطابه الباهت، وإدارة الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، القادمة تجاهلته كمن بلع لسانه.
أما الكونغرس فهو شبه غائب عن الموضوع، باستثناء بعض أركان الجمهوريين في مجلس الشيوخ، الذين أدلوا بتصريحات موجهة ضمناً لإدانة سياسة إدارة أوباما تجاه سورية. "اسم حلب سيتردد صداه عبر التاريخ كأسماء رواندا وسربرنيتسا، كشاهد على السقوط الأخلاقي وكعار أبدي"، وفق ما جاء في بيان مشترك للسناتور، جون ماكين، وزميله، لاندسي غراهام. لكن ماذا فعلت واشنطن للحيلولة دون الوصول إلى هذه الحالة من "الانهيار البشري" كما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون؟
في الواقع ما فعلته واشنطن صبّ في حصيلته وبصرف النظر عن النوايا، في تسهيل وضع الأحداث على سكّة المسار الذي انتهى بهذا الانهيار. فاعتماد إدارة أوباما على دبلوماسية التهويل ذات السقف المفتوح، شجع وباعتراف كثير من المراقبين والنخب الأميركية، على الانفلات العسكري المقابل، لقناعة أصحابه بأن الاعتراض الأميركي ليس سوى حبر على ورق.
وفي كل مرة كانت تتعالى فيها صيحات الاستدراك لعمل شيء ما، دولي أو غيره، يؤدي إلى وقف انزلاق الأحداث نحو كارثة إنسانية، كانت الإدارة تردّ بأنها "عازمة" على مواصلة دبلوماسيتها الهادفة إلى "وقف النزيف الدموي". وهي دبلوماسية كان يخبو بريقها، وفقدت أهميتها ودورها مع هبوط خطابها حتى في مفرداته.
بدأت بتهديد من تجاوز "الخط الأحمر" ثم بالتحذير من أن لصبر واشنطن "حدوده" وانتهت باستجداء التعاون مع موسكو لوقف إطلاق النار، مروراً بالتلويح بـ"الخطة باء" كبديل إذا فشل الحوار مع الروس، والتي تبخرت سيرتها، منذ أشهر، من خطاب الإدارة إزاء سورية. بذلك تحول الموقف عملياً إلى ما يشبه إجازة مرور لعبور المأساة الإنسانية إلى حلب.
إساءة تقدير أوباما للوضع من الأساس، يجري الآن دفع كلفتها البشرية والجيوسياسية. ومن أعطاب هذا الموقف أن الإدارة الأميركية كانت في تعاملها مع الأزمة السورية، حريصة على الابتعاد عن كل ما من شأنه المس بـ"الحساسيات" الإيرانية في سورية. كانت عينها دوماً على الاتفاق النووي وحمايته. وتبدّى ذلك في تركيز التصويب الأميركي فقط على الروس أثناء حرب حلب من دون تسليط الأضواء على الدور الإيراني، ناهيك بمحاولة لجمه من خلال إجراءات ليست بالضرورة عسكرية.
وتردد في واشنطن أن طهران عملت أخيراً، على عرقلة مشاريع وقف النار في حلب. وعندما سئل اليوم الناطق الرسمي في وزارة الخارجية، جون كيربي، عن تجاهل الإدارة لهذا الأمر وعدم فرض عقوبات جديدة على إيران بسبب مثل هذه العرقلة، اكتفى بالرد: "إن هناك عقوبات حالياً على إيران". ترجمة ذلك أن دورها في سورية لا يستحق خطوة من هذا النوع.
وكان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قد وضع، قبل أيام، بعض الملامة على المقاتلين لأنهم لم يساعدوا في قبول وقف إطلاق النار. وكأن الفاجعة الإنسانية التي نجمت يمكن توزيع المسؤولية بشأنها، بهذه السهولة حتى ولو أن المقاتلين لم يسهلوا فعلاً إجراءات وقف النار.
فالوزير يعرف أن القصة أبعد من ذلك كما يعرف أن واشنطن كغيرها كانت تشتري الوقت بانتظار إنجاز الحل الميداني ولو بثمن كارثي.
أما الآن، فعدة سيناريوات متداولة في واشنطن، يجمع بينها الاعتقاد أن الحرب في سورية مفتوحة بعد حلب كما كانت قبلها ولو بصيغ مختلفة. ومن ذلك انتقال القتال إلى منطقة إدلب، على نسق حرب حلب، أو تحوله إلى حركة جوّالة موزعة على أكثر من جبهة وموقع. وقد يوازي ذلك ارتفاع في وتيرة التجنيد ضد النظام، وبما يعطيه الذريعة أنه يقاتل الإرهاب، وبما يتلاقى مع خطاب ترامب الذي يمهد للتعاون مع الروس في سورية على قاعدة "التخلي عن سياسة تغيير الأنظمة في المنطقة".