وأشرقت شمسي من جديد

22 ديسمبر 2018
+ الخط -


دبّ المُخدّر في عروقي مثل سمٍّ، كان شريط حياتي يمرُّ أمامي كحكاية قصيرة قد تكون نهايتها فوق هذا السرير الطبي، ثم سرعان ما غبت عن الوعي، لا كوابيس أو أحلام وردية، بل خوف كبير وتشبث بأهداب دنيا لم يثمر في اللاشعور سوى البياض، مرّت حوالي ساعة ونصف الساعة، فبدأت أستعيد الوعي، وطنين الآلات يتناهى إلى سمعي، أسناني تصطك ببعضها دون أن أستطيع التحكم فيها، وأطرافي تهتز من البرد، وأنبوب صغير يتدلى إلى وريد يدي اليمنى، وفوق صدري آلة تشبه المضخة.

شعور غريب راودني حينها، بدأت الأصوات تصلني وكأنني في جُبٍّ عميق، لم أكن أستطيع رؤية الطاقم الطبي من حولي بوضوح وكأن الضباب يغلفه، وقف على رأسي طبيب التخدير وهو يقول: حمداً لله على سلامتك.. مرّت العملية بسلام.. هل تسمعينني؟ حرّكت رأسي دلالة على الإيجاب، بعدها كان مساعده الذي لم أتبين سوى وزرته الزرقاء بجانبي يفصل عني الآلات وهو يقول: "ستكونين بخير، تشجعي"، لم تتغير نبرته فقد كان يحثني على الصبر قبل إجراء العملية وهو يحقن معصمي، بعدها بدقائق سحبتني ممرضة من غرفة العمليات باتجاه مصعد المرضى وهي تمسح حول فمي بفوطة مبللة وتقول: على سلامتك أختي.. ستكونين بخير؟ كانت تريد أن تتأكد أنني أسمعها، قلت بصعوبة وبصوت خفيض: الحمد لله قدر ولطف.

في المصعد كنت أشعر برأسي يدور وينتفخ، وقلبي يخفق بقوة، كأنني لا أصدق أنني منحت فرصة ثانية في العودة إلى الحياة، إلى أبنائي، وأسرتي، إلى حضن أمي، إلى دنياي وأحلامي الكبيرة.. قبل أن نغادر المصعد أدارت الممرضة السرير الطبي المتحرك فالتصق وجهي بالمرآة، كان منتفخاً علته صفرة واضحة، وعيناي متورمتان وكأنني لم أنم دهراً، فيما تحيط عنقي ورقبتي ضمادة بيضاء.

نقلتني الممرضة إلى سرير غرفة المصحة بالطابق الثاني ووضعت فوق جسدي الذي كان يهتز غطاء، ثم نادت على أفراد أسرتي، كانت أول قبلة من والدتي دافئة ممتزجة بالدموع، تحلق حولي أقاربي، بينما كانت طفلتي ريم تدور حولي فرحة، وتسأل ببراءة: "ماما ما هذا الأنبوب؟ وما هذه الدماء؟ تجيبها أختي، فتعود لتمسك بيدها الصغيرة يدي، وتقول بنبرة حنونة: "ماما الله يشفيك"، كان لوقع كلماتها عظيم الأثر في نفسي، ورغم أنني لم أكن أر الوجوه المحيطة بي بوضوح، لكنني كنت أستطيع أن أسمعهم وأستشعر فرحتهم بنجاح عمليتي، عائلتي وأصدقائي.. وهذا أمر ساعدني كثيرا على التماسك وإظهار القوة، ومحاولة إخفاء الألم الذي كان يفتك بي وكأن سكينا مغروسة في حنجرتي.

بعد ساعات انفض أهلي من حولي، حقنني الممرض المناوب ليلا بحقنة مهدئة، مع تلاوة بعض التعليمات وانصرف.

لم أنم تلك الليلة ولم يفارقني الألم والقلق، كلما طردت أحدهما، هجم علي آخر دون رحمة، صور كثيرة تداعت إلى ذهني، ومخاوف كبرى كانت تكبلني، لم يقطعها إلا صوت الطبيب الجراح الذي أجرى لي العملية حينما دخل عليّ الغرفة، وقد أبدى انزعاجه من الدموع التي رآها تبلل وسادتي فسألني: ما الذي يبكيك يا ابنتي؟ هل زارك أهلك وأصدقاؤك؟ قلت: نعم، فرمى في وجهي سؤالا على شاكلة عتاب: فما الذي يبكيك إذن، أنت بهذا تسيئين إلى نفسك ولن تتحسني، تسلحي بالشجاعة والتفاؤل وانظري إلى كل ما وقع كجرس إنذار لكي تنتبهي إلى صحتك، وتبتعدي عن كل مسببات تعب الأعصاب والضغط.

لم أستطع أن أغالب دموعي وهو يحدثني، وقد أصر على أن يبقى برفقتي لأطول وقت، وأن يحاول تبديد مخاوفي، لكن فكري كان مشوشاً ومنشغلاً بنتائج تحاليل الورم المستأصل؟ هل سيكون خبيثا؟ هل سيقدر عليّ أن أصاب بالسرطان؟ هل سأفقد شعري وأخضع لحصص اليود المشع؟ هل سأصبح عاجزة عن رعاية أطفالي؟ لحظات ضعف وأسئلة حارقة ظلت تنهشني إلى اليوم الموالي واليوم الذي بعده، بل كان عليّ الانتظار أسبوعا على هذا الحال؟ وأنا لا أفعل شيئا سوى الصلاة والدعاء وقد ضاقت الدنيا في عيني ولم أستطع الحفاظ على معنوياتي المرتفعة ولا على التفاؤل الذي أبديته أمام من اكتوين بهذا الداء خلال تصويري معهن لقناة تلفزيونية منذ فترة قصيرة فقط، وقد كان وراء كل قصة من قصصهن تجربة تستحق أن تروى عن الصبر وقوة التحمل ومشوار طويل من العلاجات في ظل وضع صحي معطوب.

في غمرة هذا الألم، تذكرت صديقي يوسف، الذي أصيب مؤخرا بسرطان الدم، حضرتني معاناته وقوة عزيمته وإصراره، بكيت بحرقة، وكنت أحاول أن أبحث عن خيط أمل لأبتسم، وأمني النفس بأن يكون ورمي حميداً.

كنت أرتجف في هدأة الليل وأعد الأيام في انتظار نتائج الفحوصات، بعد أن غادرت المصحة، وما ضاعف خوفي أن الورم تم تصنيفه قبل استئصاله من نوع Tirdas4 وأن احتمال الإصابة بالسرطان فيه من 6 إلى 17 بالمائة، كان الأمر بالنسبة إلي بمثابة كابوس ضاعفه الانتظار، أما الألم فقد بدأ يخف تدريجياً وبت أستطيع تناول الطعام وتحريك عنقي قليلاً والكلام..

أخيرا حلّ اليوم الموعود، رافقتني شقيقتي إلى المختبر، وقد شعرت بأن الطريق طالت بنا.. تسلمت النتائج في رسالة مغلقة، وقالت لي وهي تحاول تبديد مخاوفي: لن نفتحها الآن، نأخذها إلى طبيبك وهو يراها ويخبرنا، خطفتها من بين يديها قبل أن تنهي جملتها، شعرت بدوار في رأسي ويداي ترتعشان وأنا أفتحها، كانت طويلة جدا ومصطلحات طبية لم أستطع فك شفراتها.. نظرت أختي إلى اصفرار وجهي وارتجاف شفتي فقربت رأسها إلي وأمسكت يدي وهي تجلسني على الكرسي: لا تخافي. كنت أقرأ بتوتر إلى أن سقطت عيني على آخر جملة في الرسالة: "Absence de signes de malignité". فقط حينها تنفست الصعداء، ثم توجهنا بعدها إلى عيادة الطبيب الذي يتابع حالتي، كان قد توصل بنسخة من النتائج مسبقاً، أخبرني بذلك وأنا أمد له الرسالة مرتعشة الأطراف، غائرة الأحداق، مد يده وقبض على كفي بقوة وهو يردد: "سلامتك يا ابنتي، سلامتك، الورم حميد، لا وجود للسرطان".

هدأت نفسي شيئا فشيئا، وهو يشرح لي ما جاء في النتائج مع تعليمات. أخذ الدواء سيلازمني طول حياتي وبعض الاحتياطات والنصائح. يا الله ما ألطفك، يا الله ما أعظمك، طوقتني سكينة ورضا لم أذق طعمهما منذ بدأت رحلة الكشف والفحص إلى غاية إجراء العملية، لقد أشرقت شمسي من جديد..

إنه المرض، تجربة فريدة تعرينا وتمنحنا فرصة لاكتشاف حقيقتنا واختبار صبرنا وقدرتنا على تحمل الابتلاء مهما كان، إنه درس ملهم لإعادة ترتيب أوراقنا وأولوياتنا وعلاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين.

دلالات
حنان النبلي
حنان النبلي
صحافية مغربية، حاصلة على ماستر متخصص في الدراسات الأدبية والثقافية في المغرب. من أسرة "العربي الجديد".

مدونات أخرى