هيكل... ما له وما عليه

24 فبراير 2016

كان هيكل مولعا بقديم التاريخ وحديثه

+ الخط -
سكت صوتٌ ظل يتكلم 70 سنة. انسحب من مسرح الحياة أشهر صحافي في العالم العربي، بعدما كان شاهداً على عصر كامل.. محمد حسنين هيكل ودّع حياةً كانت حافلة عاشها في رحاب الصحافة والسياسة. ولهذا اختلف وسيختلف الناس حول تركته حياً وميتاً، لنطل أولا على ميزة الرجل صحافياً، ثم نبدي ملاحظة عليه سياسياً، اقترب من السلطة بأكثر مما تسمح به مهنة "صاحبة الجلالة".
ثلاث مزايا طبعت سيرة الكاتب والصحافي الراحل، محمد حسنين هيكل؛ أولاها ولعه بالعمل الميداني، والخروج من المكتب إلى أرض الواقع، بحثاً عن الحقائق والقصص التي تهم الناس. غطى هيكل جزءاً من الحرب العالمية الثانية في العلمين، وغطى حرب فلسطين سنة 1948، وكان حاضراً في أزمة انفصال باكستان عن الهند، وكان قريباً من ثلاث حروب على الأقل 56 و67 و73. نقل هيكل إلى قرائه الكثيرين أزمات دولية، واحترف أن ينقل من الميدان الأصوات والمشاهد والصور التي لا تصل عادة إلى الناس.
الميزة الثانية لهيكل الصحافي أنه كان مولعاً بالتاريخ قديمه وحديثه، وأمضى مشواره المهني كله يلاحق شهود التاريخ ووثائقه وكتبه وآثاره وعبره. كان أرشيفاً متنقلاً، يجمع كل ما يقع تحت يده من أوراق وحوارات ولقاءات وقصاصات وكتب ومولفات وأشعار وروايات ومذكراتٍ، قد تساعد على كتابة القصص الإخبارية والبورتريهات التي تغوص في عمق الشخصيات صانعة الحدث.
الميزة الثالثة لهيكل، وكبار جيله من الصحافيين المصريين والعرب، أنهم أعطوا طابعاً حديثاً للكتابة الصحافية، وأخرجوا (الجورنالجي) من غرفة كتابة التقارير إلى ساحة التأثير في القرار وتوجيه الأحداث، وربط الناس بالخبر وتحولات العصر. اقتبس هيكل أجناساً صحافية غربية، وأدخلها إلى الصحافة العربية، وفتح أبواب (الأهرام) للأدباء والشعراء والأكاديميين والخبراء (هو من أقنع نجيب محفوظ، مثلا، بالانفتاح على الصحافة ونشر رواياته في الصحيفة، وهو الذي أسس مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية).
كان صديقا لعبد الناصر، وكاتب خطبه، ثم أمضى سنواتٍ إلى جانب السادات، وساعده على التخلص من مراكز القوى، قبل أن يقع الطلاق بينهما، ثم تحول إلى معارض شرس لاتفاقية كامب دايفيد، ودخل السجن جرّاء كتاباته المحذرة من مخاطرها، ثم أمضى أشهر عسل قليلة مع حسني مبارك، قبل أن يقع الجفاء بينهما، ويتحوّل هيكل إلى ألد أعداء (الريس)، وصولاً إلى ثورة يناير التي دعمها هيكل، انتقاماً من نظام كان يراه فاسداً وعابثاً بمكانة مصر الإقليمية والدولية. لكن، عندما جاء "الإخوان" إلى السلطة، تذكّر هيكل كل صراعاته معهم، من أيام العهد الملكي، إلى المواجهة ثم القطيعة مع صديقه ناصر، ولما أطل العسكر من نافذة الانقلاب على القصر الجمهوري وجدوا في هيكل مكبر صوت كبيرا، أضفى شرعية الضرورة على مؤامرة الجنرال، وتطوّع لكتابة بيان الانقلاب الأول.
في كل هذا المسار الطويل والمعقد، ظل هيكل يعرّف نفسه بمهنة واحدة، يقول: "أنا صحافي". ليبقى محصناً بين أسوار المهنة ولم يسمح للسياسة والساسة بتوظيف قلمه، وتسخير موهبته في الدفاع عن مواقف لا يمكن تبريرها، من تحويل هزيمة حزيران إلى نكبة، إلى صناعة بطل من حاكم مهزوم، وصولا إلى تبييض سيرة جنرال غارق في الدم. في لحظة فارقة من تاريخ بلده، لم يختر محمد حسنين هيكل جيداً أين يقف، ولم يتعرّف على الموقع الذي كان يجب أن يكون فيه.. كصحافي مهمته أن يرتدي بذلة محامي الدفاع عن الحرية والديمقراطية وشرعية صندوق الاقتراع، مهما كانت خلافاته وتحفظاته على خصومه.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.