28 أكتوبر 2024
هيبة الدولة والثقافة السياسية في تونس
في ثقافتنا السياسية، باعتبارها قيماً توجه السلوك السياسي اليومي للمواطنين، يختلط مفهوم النظام بالدولة، إضافة الى سياقات إيجاد الدول في العالم العربي التي كانت، في حالات عديدة، هجينة مخلقة من نطف القبائل والعشائر ومقص "سايكس بيكو" ومسطرته الاستعمارية التي كانت، إلى حد ما، قد سطرت الحدود، ووزعت المساحات، وعيّنت الزعماء وصنعتهم، في النصف الأول من القرن الفارط تحديداً، وتواصل ذلك بأشكال مختلفة فيما بعد.
ربما كانت إحدى الخصائص التي ميزت الثورة التونسية قدرة مواطنيها، في أحلك الفترات، على تجنب الانقضاض على الدولة، وإتلاف مواردها، وأركانها إبّان الثورة. لم يكن رد ذلك إلى خصال تحضر وتهذيبٍ مدني شكل عقلية منفردة في الوطن العربي. ولكن قد يكون ذلك ناجماً عن علاقة خاصة بين الدولة والمجال والهوية الوطنية في التاريخ السياسي الحديث للتونسيين، فالتراث الدولوي ومركزية الدولة المفرطة وحضورها أفرد للدولة هذه مكانة خاصة لدى التونسيين، فقد أعطت لوجودهم السياسي، وحتى النفسي، معنىً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهذه الدولة التي صنعوها بأيديهم، لكنها أصبحت شرط وجودهم الاجتماعي والسياسي لاحقاً.
تواصلت أحداث الثورة التي أدت بسقوط النظام قرابة شهر، لم تعرف فيها البلاد سوى حالاتٍ نادرة من أعمال الشغب التي نهبت فيها بعض المؤسسات الخاصة فحسب، وظلت ممتلكات الدولة ومؤسساتها محفوظة، بل قامت لجان شعبية من المواطنين المتطوعين بحمايتها قد تكون كل تلك السلوكيات ساهمت في صنع ما عرف بالاستثناء التونسي. ولكن، علينا أن نكون أكثر تواضعاً وموضوعية، فنضيف أن البلاد شهدت، في السنوات الخمس التي مرت على تلك الأحداث، عدة تحولات قد تكون غير مطمئنة في علاقة المواطن التونسي بالدولة، ما أدى الى تشكل جملة من التصورات والقيم السياسية الجديدة التي قد تكون صاغتها النخب، فبرزت صور وسلوكات جديدة، لا تخلو من سلبيةٍ ضارة بمسار التحوّل الديمقراطي برمته.
أدّت حالة الاستقطاب السياسي الحاد الذي عرفته البلاد، إثر انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 تحديداً، وفوز حركة النهضة فيها، إلى عودة الصور النمطية الجاهزة حول النخب السياسية، وتحوّلت البلاد إلى معسكرات سياسية متنافية، ذكّرتنا بالساحة الجامعية في ثمانينيات القرن الفارط، وهي معسكرات خاضت أشكالاً من العنف المفرط فيما بينها. وفي هذه الحرب
المستعرة، الباردة حينا والصاخبة حينا آخر، والتي تجري مند سنوات خمس، استباح الخصوم استعمال الدولة في المعركة، وتجرأت النخب المعارضة تحديداً على التشفّي من خصمها السياسي الحاكم، في هذه الحالة، من خلال التنكيل بالدولة، أي إلحاق الضرر بمواردها البشرية والمادية والرمزية. كانت تهمة "أخونة الدولة" شعاراً مبرّراً، في أغلب الأحيان، لهدم المعبد على من فيه. كان ذلك أحد الأهداف والوسائل التي استعملتها المعارضة في إعاقة من حكموا البلاد في السنتين الأوليين بعد سقوط النظام تحديداً. تم تحقيق أرقام قياسية من الإضرابات وإتلاف موارد الدولة والسطو على ممتلكاتها، ولم تثن تنبيهات المنظمات الدولية أحداً، بل تواصل ذلك نكايةً في الخصم السياسي الذي يحكم. حتى شملت في النهاية الاعتداءات على رموز الدولة (موظفيها ومسؤوليها المحليين والمركزيين بما فيهم رئيس الجمهورية). أكد بعضهم أن هؤلاء "محتلون"، لذلك لم يستبعد أن تخاض حروب تحرير جديدة، أحدها حرب انفصال أقاليم وإعلانها مناطق محرّرة. حدث هذا، ولم يجرؤ أحد على إدانة هذا الخطاب.
تم التحرش بالحاكمين وإطلاق حملات دعائية مغرضة، توسلت بالسفاهة والنكات السخيفة وتلفيق الإشاعات في حملات منظمة، فأصبحت دعوات العصيان المدني لعبةً، أما الاعتصامات فغدت بدورها "وجبة يومية للنضال"، بل تمرّدت نقابات أمنية، وحاصرت مبنى رئاسة الحكومة ومقر رئاسة الجمهورية في أكثر من مناسبة، من دون محاسبة، بل رأينا طيفا واسعاً مما يسمى المجتمع المدني يتواطأ مع تلك الممارسات الطائشة.
جاء حزب نداء تونس، وردّد شعار إرجاع هيبة الدولة في حملته الانتخابية، وكان يردّد في الأثناء أن هيبة الدولة بدّدتها الترويكا، غير أن منجزاته في هذا الباب بالذات كانت كارثية، فسياسة التعيينات التي عمد إليها الحزب، بعد فوزه في انتخابات سنة 2014، والتي استند فيها عموماً إلى موارد بشرية، نشأت في حزب التجمع الدستوري الذي حكم به بن علي، انتدبت عموماً من دوائر الفساد المالي والسياسي التي شكلت أذرع ذلك الحكم. افتقار الكفاءة وشيوع الفساد، حتى في بعده الأخلاقي، أعطيا مبرّراً جديداً للاستهتار بالدولة ورموزها، بل والاعتداء عليهما، في أكثر من مناسبة، وصعّب من جديد التمييز بين الدولة والنظام.
في كل تلك الأعمال المخالفة للقانون، كان يتم تحت ضغط المجتمع المدني إطلاق سراح من عطّل المصلحة العامة، واعتدى على المرفق العام، حتى غدت بعض القطاعات والشخصيات حائزة على حصانة، أو هي فوق القانون والدولة أصلاً، فبعض من أطياف المجتمع المدني يتحرّش بالدولة في ضربٍ من العدمية، نكاية في الخصم السياسي الحاكم.
حتى تسترجع الدولة هيبتها عليها تطبيق القانون من دون تمييزٍ أو تنازل. لن يكون ذلك كافياً، لكنه شرط ضروري.
ربما كانت إحدى الخصائص التي ميزت الثورة التونسية قدرة مواطنيها، في أحلك الفترات، على تجنب الانقضاض على الدولة، وإتلاف مواردها، وأركانها إبّان الثورة. لم يكن رد ذلك إلى خصال تحضر وتهذيبٍ مدني شكل عقلية منفردة في الوطن العربي. ولكن قد يكون ذلك ناجماً عن علاقة خاصة بين الدولة والمجال والهوية الوطنية في التاريخ السياسي الحديث للتونسيين، فالتراث الدولوي ومركزية الدولة المفرطة وحضورها أفرد للدولة هذه مكانة خاصة لدى التونسيين، فقد أعطت لوجودهم السياسي، وحتى النفسي، معنىً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهذه الدولة التي صنعوها بأيديهم، لكنها أصبحت شرط وجودهم الاجتماعي والسياسي لاحقاً.
تواصلت أحداث الثورة التي أدت بسقوط النظام قرابة شهر، لم تعرف فيها البلاد سوى حالاتٍ نادرة من أعمال الشغب التي نهبت فيها بعض المؤسسات الخاصة فحسب، وظلت ممتلكات الدولة ومؤسساتها محفوظة، بل قامت لجان شعبية من المواطنين المتطوعين بحمايتها قد تكون كل تلك السلوكيات ساهمت في صنع ما عرف بالاستثناء التونسي. ولكن، علينا أن نكون أكثر تواضعاً وموضوعية، فنضيف أن البلاد شهدت، في السنوات الخمس التي مرت على تلك الأحداث، عدة تحولات قد تكون غير مطمئنة في علاقة المواطن التونسي بالدولة، ما أدى الى تشكل جملة من التصورات والقيم السياسية الجديدة التي قد تكون صاغتها النخب، فبرزت صور وسلوكات جديدة، لا تخلو من سلبيةٍ ضارة بمسار التحوّل الديمقراطي برمته.
أدّت حالة الاستقطاب السياسي الحاد الذي عرفته البلاد، إثر انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 تحديداً، وفوز حركة النهضة فيها، إلى عودة الصور النمطية الجاهزة حول النخب السياسية، وتحوّلت البلاد إلى معسكرات سياسية متنافية، ذكّرتنا بالساحة الجامعية في ثمانينيات القرن الفارط، وهي معسكرات خاضت أشكالاً من العنف المفرط فيما بينها. وفي هذه الحرب
تم التحرش بالحاكمين وإطلاق حملات دعائية مغرضة، توسلت بالسفاهة والنكات السخيفة وتلفيق الإشاعات في حملات منظمة، فأصبحت دعوات العصيان المدني لعبةً، أما الاعتصامات فغدت بدورها "وجبة يومية للنضال"، بل تمرّدت نقابات أمنية، وحاصرت مبنى رئاسة الحكومة ومقر رئاسة الجمهورية في أكثر من مناسبة، من دون محاسبة، بل رأينا طيفا واسعاً مما يسمى المجتمع المدني يتواطأ مع تلك الممارسات الطائشة.
جاء حزب نداء تونس، وردّد شعار إرجاع هيبة الدولة في حملته الانتخابية، وكان يردّد في الأثناء أن هيبة الدولة بدّدتها الترويكا، غير أن منجزاته في هذا الباب بالذات كانت كارثية، فسياسة التعيينات التي عمد إليها الحزب، بعد فوزه في انتخابات سنة 2014، والتي استند فيها عموماً إلى موارد بشرية، نشأت في حزب التجمع الدستوري الذي حكم به بن علي، انتدبت عموماً من دوائر الفساد المالي والسياسي التي شكلت أذرع ذلك الحكم. افتقار الكفاءة وشيوع الفساد، حتى في بعده الأخلاقي، أعطيا مبرّراً جديداً للاستهتار بالدولة ورموزها، بل والاعتداء عليهما، في أكثر من مناسبة، وصعّب من جديد التمييز بين الدولة والنظام.
في كل تلك الأعمال المخالفة للقانون، كان يتم تحت ضغط المجتمع المدني إطلاق سراح من عطّل المصلحة العامة، واعتدى على المرفق العام، حتى غدت بعض القطاعات والشخصيات حائزة على حصانة، أو هي فوق القانون والدولة أصلاً، فبعض من أطياف المجتمع المدني يتحرّش بالدولة في ضربٍ من العدمية، نكاية في الخصم السياسي الحاكم.
حتى تسترجع الدولة هيبتها عليها تطبيق القانون من دون تمييزٍ أو تنازل. لن يكون ذلك كافياً، لكنه شرط ضروري.