بدأت هونغ كونغ تشهد تباعاً تداعيات قانون الأمن القومي الذي فرضته الصين عليها أخيراً، وسط تنديد وإجراءات دولية، لم تمنع صدور قرارات عن السلطة التنفيذية في المدينة، أكثر تشدداً، بعدما منح القانون الضوء الأخضر لإحكام القبضة الصينية على المستعمرة البريطانية السابقة، ومحاصرة المعارضة المطالبة بالديمقراطية، والتي تراها بكين أداة للغرب. ويرصد المجتمع الدولي منذ أيام التوقيفات في هونغ كونغ التي طاولت 4 معارضين وفقاً للقانون الذي يجرّم أي خطوة من شأنها وقف عمل الحكومة المركزية أو التمرد عليها، فضلاً عمّا يصفهُ بالإرهاب والتواطؤ مع القوى الأجنبية، بالإضافة إلى إعلان تأجيل انتخابات المجلس التشريعي للمدينة من 6 سبتمبر/ أيلول المقبل، ولمدة عام كامل، بحجة تفشي وباء كورونا. كذلك، تعمل الصين على التسرب إلى المدينة من بوابات عدة، آخرها تحذيرات خرجت بعد وصول مسؤولين صينيين صحيين للمرة الأولى إلى المدينة، لإجراء فحوص للوباء. في هذا الوقت، برزت معالم تمرد داخلي، تمثلت باستقالة مدير دائرة الملاحقات القضائية العامة في وزارة العدل في هونغ كونغ ديفيد لونغ، يوم الجمعة الماضي، على خلفية "خلافات" مع وزيرة العدل تيريزا تشينغ، واستبعاده من ملفات القانون الصيني.
أعلنت سلطات هونغ كونغ تأجيل انتخابات المجلس التشريعي للمدينة من 6 سبتمبر/ أيلول المقبل، ولمدة عام كامل، بحجة تفشي وباء كورونا
وتطرق لونغ في بيان استقالته إلى قانون الأمن القومي الصيني، الذي أقرّته بكين في يونيو/ حزيران الماضي، معرباً عن أسفه لعدم التوافق مع وزيرة العدل على طريقة إدارة دائرة الملاحقات القضائية، وهو أمر لم يتحسن برأيه مع الوقت، وفقاً لما ذكره في رسالة إلى زملائه في الدائرة. واعتبر لونغ أن عدم التوافق لا يسهّل الإدارة السلسة للقسم، مضيفاً أنّ من الأفضل لتشينغ البحث عن بديل له لـ"إدخال أفكار جديدة". وتحدث المدعي العام عن تهميشه من المشاركة في حالات الأمن القومي وفق القانون الصيني. وقال في هذا الصدد، متوجهاً إلى وزيرة العدل، إنه لا يملك أي معلومات عن الملفات والحالات (الملاحقة)، وذلك بسبب استبعاده من أي استشارة أو مشاركة. وكان لونغ قد انضم إلى الدائرة في عام 1995، وعُيّن على رأسها في عام 2017، وعُرف بقيادته ملاحقات بحق قياديين في حركة المظلات المطالبة بالديمقراطية (2014)، من بينهم الأكاديميان بني تاي وتشان كين مان، والقس شوي وو مينغ. وكانت الأضواء قد سُلِّطت على لونغ وتشينغ العام الماضي، بعدما نشر 5 مدعين عامين في المدينة رسالة مفتوحة انتقدوا فيها أداء الثنائي، معتبرين أنهما أخفقا في إدارة المهنة ومواجهة الرأي العام بـ"صدق وشفافية".
في غضون ذلك، يبدو أن الصين لم تعد تتوانى عن فرض أجندتها داخل المدينة، منذ أن مهدت لذلك بقانونها، الذي أعاد تعويم سلطة الرئيسة التنفيذية المحلية كاري لام. ومن تجليات ذلك، إرسال بكين للمرة الأولى 6 مسؤولين صحيين رسميين إلى المدينة، قالت لام إن استدعاءهم جاء بعد طلبها مساعدة البرّ الصيني لمواجهة تفشي الجائحة، التي تخطى عدد المصابين بها في المدينة الـ3500 حالة منذ يناير/ كانون الثاني الماضي. وقرار لام هو الثالث في غضون أيام قليلة الأسبوع الماضي، الذي استفز المعارضة، بعد استبعاد 12 مرشحاً مؤيّداً للديمقراطية من الترشح للانتخابات التشريعية، لأسباب من بينها "النيات التخريبية" والمعارضة لقانون الأمن الصيني، وتأجيل الانتخابات بحد ذاتها عاماً، وسط شكوك للمعارضة في صدق النيات لإجرائها أصلاً. وعبّر سكان محليون عن قلقهم من إمكانية أن تكون الفحوصات، التي تريد السلطة أن تكون شاملة، ذريعة لنقل عيّنات من حمضهم النووي إلى البر الصيني، وهو ما نفته لام.
إلى ذلك، سلّط تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية الضوء على التأثير الفكري والأيديولوجي الذي يتركه نشاط أكاديميين صينيين يعززون توجهات الرئيس الصيني شي جينبينغ المتشددة. هؤلاء الأكاديميون يعملون، من وجهة نظر أيديولوجية، على كتابات تمدح رد الفعل الصيني الذي يراه الغرب استبدادياً في هونغ كونغ، معتبرين أنه ينبغي لبكين "تنظيف الفوضى" الحاصلة في المستعمرة البريطانية السابقة. وكان بعض هؤلاء الأكاديميين الذين برزوا على الساحة الأكاديمية المحلية قبل عام 2012، تاريخ وصول شي إلى السلطة، قد أبدوا لوقت قصير تعاطفاً مع احتجاجات هونغ كونغ، لكن سرعان ما عادوا لتأييد النظرية الصينية التي ترى أن مطالب الحرية قد تذهب بعيداً، وهم اليوم من أبرز المعارضين للتظاهرات المطالبة بالديمقراطية والمؤيدين لقانون الأمن القومي الصيني.
يخشى سكان هونغ كونغ من إمكانية أن تكون فحوصات كورونا التي تريد السلطة إجراءها ذريعة لنقل عيّنات من حمضهم النووي إلى البر الصيني
وبحسب الصحيفة، فقد تحوّل هؤلاء إلى منتقدين شرسين للأفكار المستلهمة من الغرب، التي اجتاحت لفترة الجامعات الصينية، مروّجين عوضاً عن ذلك النظرة العامة "الاستبدادية" المتصاعدة في عهد شي، زعيم الحزب الشيوعي الصيني. وفيما يعرف الحزب بإنتاجه ودعمه مجموعة من المفكرين يروجون لعقيدته، إلا أن هذه النخبة تتميز بوصفها نفسها كأداة لتقوية الصين في عهد من المنافسة الأيديولوجية العميقة، واصفين الولايات المتحدة بالدولة الخطيرة، ولا سيما بعد تفشي كورونا، ومعتبرين أن على بلادهم المطالبة بموقعها كقوة عظمى، وحتى كـ"إمبراطورية حميدة" تحلّ مكان أميركا. ويرى هؤلاء في شي قائداً تاريخياً للصين في مرحلة تحوّل حساسة، وعمل عدد منهم، على سياسات حيال هونغ كونغ، غذّت الخط المتشدد لبكين، بما فيها القانون الأمني.
وانتقد تيموتي شيك، المؤرخ في جامعة بريتيش كولومبيا (الكندية)، "إهمال هذه الأصوات"، معتبراً أنها "صدىً لتيار يمثل فكراً سياسياً صينياً، قد يكون على الأرجح ذات تأثير أكبر من الفكر الليبيرالي". ورأت الصحيفة أن الخوف من الاعتقال الذي تعزز في عهد شي، والرغبة في تحصيل مزايا مهنية (وهو ما يمنحه الحزب للأكاديميين المؤيدين له)، ليسا العاملين الوحيدين وراء الانبعاثة المتجددة لهذا النوع من التفكير الأكاديمي، بل إن الانكماش الاقتصادي، وتخبط الولايات المتحدة في إدارة أزمة كورونا، عزّزا النظرية الصينية بأن الديمقراطيات الليبرالية في أفول، في مقابل مواصلة الصين ازدهارها، متحدية التنبؤات بانهيار نظام الحزب الواحد.
(العربي الجديد)