هوامش على هامش المظاهرة

01 سبتمبر 2015

من مظاهرات لبنان الاحتجاجية

+ الخط -

أنزلني السرفيس عند كنيسة "مار مطانيوس" في منطقة الجمّيزة، معتذراً عن المتابعة، لأنه لا يريد أن يعلق في الزحام. لا تقصّروا فيهم، قال لي مودّعا، غامزاً بعينه، بعد أن كان قد ألقى عليّ محاضرة مسهبة في لا جدوى أي تحرّك في لبنان، وفي قلة مسؤوليتي كأمّ، إذ كيف أخاطر وأصطحب طفلة صغيرة إلى مظاهرة مرشّحة لأن تتحوّل، كسابقتها، إلى مواجهات دامية مع قوى الأمن.

ثم بكت ناي، لأنها لا تريد المضي، فقدماها الصغيرتان تؤلمانها، ولم يعد يُسعدها الهتاف لعباً ومزاحاً، "الثعب يريد دسقاط النظام"، إلى أن عبّرت صراحة عن خوفها من أن يخنقها الدخان، ذاك الذي رأته الأسبوع الماضي في التلفزيون. طأطأتُ رأسي وقفلتُ عائدة، فقدري ألا أتمتّع أبدا بالنزول إلى مظاهرة حقيقية في لبنان.

***

- إذا واحد وجعه وطنه، شو بياخد؟ / طفح الكيل / كوليرا / عَ التغيير/ راسب وفاشل/ بدنا نحاسب/ دمتَ حرّا / حلّوا عنا / حلّوا عن.../ كلّن يعني كلّن/ للبيع سيتروان سي 4/ بدنا بحر ببعلبك/ عروس لقطة/ إلخ...

هذه بعض من الشعارات التي رفعتها المظاهرة التي نجحت في كسر هيمنة الأحزاب السياسية في لبنان، والتي خلطت المطالب الجدّيّة بالسخرية والاستهزاء، وهذي من مزايا الشبابية التي طبعت هذا الحراك، فحوّلت ساحة الشهداء إلى فضاء حرّ عبّر فيه كل من أراد عن همّه وتطلعاته، فارتدى ملبساً وشعارات، وحتى أزياء ممسرحة وأقنعة، تحكي لغة مشفّرة، رافقتها الموسيقى والأغاني والرقصات...

كل أطياف الشعب اللبناني كانت هنا تقريبا، أجيالاً وطبقات اجتماعية وانتماءات سياسية ومناطق. كل متظاهر نظّم نفسه ونزل، كتب شعاراته ونزل. لكل لبناني رأي وشكوى ومعاناة، وهو قد جاء، هذه المرة، منفردا، متيقناً من أن منفردين مثله سبقوه إلى وسط البلد، أو هم سيفعلون. رفعت أعلام لبنان ولم يكن هناك سواها، وفي هذا توق دفين وحقيقي إلى وجود دولة عادلة تحمي المواطن، تبني المؤسسات، تؤمن الخدمات، تعطي الحقوق، وإلى طبقة سياسية جديدة ترمي كل هذا العفن إلى سلة المهملات.

***

يدخل محلّلون ومراقبون ومعلقون سياسيون، وبعضهم أكنّ لهم كل احترام، في سباق الكتابة عن هذا الحراك الشبابي. يتناولونه بدايةً، من بعيد، بحذر، وبمسافةِ مَن لا يريد أن يبتلّ بما هو في اعتبارهم دون المرحلة ودون الخطاب. يحاكمونه بأدوات قديمة، مستهلكة،  ثم يتقدمون خطوة ويتراجعون، أشبه بفتاة تصدّ وتشتهي، تغوي وتتمنّع. يقتربون بتوجّس، وأحيانا بترفّع، وخوفاً من البقاء خارج إطار الصورة. وما إن يتعثّر الحراك، حتى يغسلوا أيديهم من دم هذا الصديق.  قلة هم من اعترفوا أنهم من جيل آخر، بات ينبغي له ربما الانكفاء والمراقبة، والإفساح لسواه. من لم يفعل، لا يستحسن في الواقع التخلّي عن صفة "الشباب" التي تحلّى بها ذات يوم، فجرب وناضل وفشل، ولم يأت للأسف من بعده جيلٌ يزيحه ويجبره على التنحّي.

لذا، فالتحية لمن كتب مقالة بعنوان "لندع الشباب يجربون ويغيرون"، وأورد فيها أن "خبرات الأجيال السابقة من (المناضلين) الذين انتهت تجاربهم إلى كوارث، أو ما يشبهها غير ذات قيمة كبيرة أمام واقع بهذا التعقيد والتشتت. قد لا يرضي هذا الكلام اليساريين الذين يعتقدون بامتلاك ناصية المنهج التاريخي الصائب" (حسام عيتاني – جريدة الحياة). وأيضا لمن قال "مخطئ من يعطّل صراع الأجيال أو يكابر عليه"، مضيفا أن "الشباب اللبناني لم يفهم حتى الآن لماذا يتأخر التداول بين الأجيال بهذا الشكل المريع في هذا البلد وعلى كافة الأصعدة، أو يستبقى في خانة التبديل البيولوجي - اللوجستي، الذي يعرف بـ(التوريث)"، (وسام سعادة - جريدة المستقبل).

ومفاده، أيتها الأخوات والإخوة، أنه بات من واجبنا قبول أن "الثعب يريد دسقاط النظام"!

 

دلالات
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"