هوامش بيضاء

16 نوفمبر 2016
... فننطلق من جديد (جون مور/ Getty)
+ الخط -

تُناولها مدرّستها دفتراً أصفر اللون. اسمها مكتوب عليه. تعرف جيّداً أنّه اسمها، إذ إنّ عينَيها حفظتا رسمه. قد تكون ذاكرتها البصريّة بدأت تتشكّل في ذلك الحين. تطلب المدرّسة منها ومن رفاق الصفّ، فتح الدفتر والذهاب إلى الورقة الثانية منه. لا تجوز الكتابة على الورقة الأولى المخطّطة بلون رماديّ. لا تفهم السبب. في الأساس، لم تفكّر في الأمر.

على السبّورة الخضراء، حرف "أ" ضخم يتوسّط المساحة الممتدّة، خطّته مدرّستها اللطيفة بطبشورة غليظة بيضاء. هذا درس النسخ الأوّل. بتأنّ، ترسم الصغيرة العصا وقبّعتها الغريبة بقلم رصاص مسنّن.

حدث ذلك قبل زمن ليس بقريب، في الصفّ التمهيديّ أو الروضة الثالثة بحسب التصنيف التربويّ الجديد. في نهاية ذاك العام الدراسيّ، كانت قد ملأت الدفتر الأصفر بأحرف كثيرة، وملأت كذلك دفاتر أخرى. أزرق للإملاء وأخضر للاستظهار وزهريّ كمسوّدة. الورقة الأولى في كلّ واحد من تلك الدفاتر الأربعة، بقيت بيضاء لا تتخلّلها سوى خطوط رماديّة اللون. الأمر نفسه بالنسبة إلى دفاتر اللغة الفرنسيّة. في نهاية ذاك العام الدراسيّ، كانت قد أتقنت كتابة الأحرف والمفردات باللغتَين العربيّة والفرنسيّة.

احتفظت بدفاترها تلك وبكلّ الدفاتر الأخرى التي ملأتها لغاية انتهائها من المرحلة الثانويّة. تلك الدفاتر كافة، كانت أوراقها الأولى بيضاء، لا تتخلّلها سوى خطوط أو مربّعات رماديّة اللون. في الجامعة كذلك، كانت تحرص على إبقاء الأوراق الأولى من كراريسها خالية من أيّ أحرف. حرصها ذاك، يمكن القول فيه إنّه كان لاواعياً. حرصها ذاك كان عادة لازمتها، وما زالت.

اليوم، تتذكّر تلك الأوراق البيضاء. اليوم، تفكّر في الأمر. كأنّما كانت هوامش ما. هوامش بداءة. لا شكّ في أنّ هوامش البداءة مجال محتمل لانطلاقة جديدة. هوامش البداءة فرصة جديدة. هذا ما يقول به المنطق. حبّذا لو نتمكّن من ابتداع هوامش بيضاء، ولو تخلّلتها بعض خطوط أو مربّعات رماديّة اللون. هوامش نبتدعها، فننطلق من جديد.

قبل زمن ليس بقريب، كنّا نلجأ إلى الممحاة إذا ما أخطأنا في نسخ حرف ما. كان في إمكاننا إزالة ما خطّه قلم الرصاص المسنّن على ورقة ما. وكنّا نعيد نسخ الحرف، غير أنّ أثر المحاولة الأولى كان يبقى بيّناً وقد نقشت الورقة. اليوم، نحاول في كثير من المرّات، محو هفوات وآلام. قد ننجح في إزالة بعضها، غير أنّ أثرها يبقى منقوشاً في ذواتنا. حبّذا لو نتمكّن من ابتداع هوامش بيضاء، ولو تخلّلتها بعض خطوط أو مربّعات رماديّة اللون. هوامش نبتدعها، فننطلق من جديد.


دلالات