وانطلق المؤتمر يوم الجمعة الماضي، بحضور أكثر من 350 فاعلاً في السياسة الدولية، وبمشاركة 70 بلداً، وقيادات رفيعة، بما يعكس أهميته. وشهدت كواليس المؤتمر وقاعاته وأجنحته العديد من اللقاءات والمباحثات لتناول الأزمات، مع اقتراحات وكثير من التمنيات، في حين كانت الشوارع المحيطة بقاعة المؤتمر تشهد فعاليات شعبية طغت عليها الرايات الحمراء لمعارضة ما يسمّونه "الجشع الرأسمالي" وسباق التسلّح واستغلال الدول النامية من الشركات متعددة الجنسيات، وحكومات الشمال الثري.
أوروبا وقائمة الأولويات: روسيا في المقدمة
شعور قادة القارة الأوروبية، السياسيون منهم والعسكريون، بتعاظم التهديدات المحيطة بهم، وغياب الحلول الدبلوماسية الواضحة، جعلا الخوف من تأثير انعدام الأمن يهيمن على كلماتهم ولقاءاتهم. فعلى الرغم من أن القارة الأوروبية تجاوزت أزمتها الاقتصادية، وانخفضت نسب البطالة في بعض دولها، مع انتعاش اقتصادي في جنوبها، فإنّ تحديات كثيرة تواجه الأوروبيين.
وعبّر القلق الأوروبي عن نفسه بوضوح، تحديداً لجهة غياب سياسة أمنية موحّدة، بعد مقدمات انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، أكّدت أنّ بلادها ستبقى ملتزمة بأمن أوروبا وبحلف شمال الأطلسي "كشريك مستقر بولاء لجميع الأصدقاء والحلفاء في القارة". وعلى الرغم من تعهّد ماي بأن لندن ستواصل قيادة مهام عسكرية وتبادل معلومات الاستخبارات، إذا وافقت بروكسل على إبرام معاهدة "تسري اعتباراً من 2019"، وهو العام نفسه الذي سيشهد الانسحاب الفعلي لبلادها من التكتل، إلّا أنّ ازدياد "التحدي الروسي" على مستويات مختلفة يُقلق دول أوروبا أكثر بكثير مما كان عليه قبل 2014.
فالأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، الذي رحّب بمقترح ماي، كان قد حذّر بوضوح من "العدوانية الروسية"، مناشداً الدول صرف مزيد من الأموال على الدفاع. وبحسب ما ورد في كلمة ستولتنبرغ، أمام مؤتمر ميونخ للأمن، يوم الجمعة الماضي، فإن جهود الاتحاد الأوروبي لتعزيز الدفاع تعدّ "فرصة لمزيد من التعزيز للركيزة الأوروبية داخل الحلف لمشاركة العبء بشكل أفضل". لكنه أشار إلى وجود مخاطر في ذلك، موضحاً أنه "بعد اكتمال خروج بريطانيا من الكتلة، سيأتي نحو 80 بالمائة من تمويل الحلف من حلفاء من خارج الاتحاد الأوروبي".
ولم تختلف مطالبات الرئيس الأوكراني، بيترو بورشينكو، الذي ندّد مجدداً، من ميونخ، باستمرار توسعة الروس لرقعة النزاع في بلده، من دون أن يمنعه ذلك من تجديد مسعاه لنشر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في شرق أوكرانيا، قائلاً إنه توجد "فرصة أمام موسكو لإظهار المرونة والموافقة على (نشر) قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في كل أرض دونباس المحتلة".
وبالتزامن مع تعبير القادة عن خوفهم من نشاط موسكو المتزايد، اتهم المحقق الأميركي، روبرت مولر، الروس بمحاولة التلاعب بالانتخابات الأميركية، وهو ما أثار استياء وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي أطلق تعبير "هراء" على هذه الاتهامات، فيما كانت المتحدثة باسم وزارته، ماريا زاخروفا، قد سبقته بإنكار كامل لكل الاتهامات الغربية والأميركية، لبلادها، بالوقوف وراء تأزّم الأوضاع في سورية ومناطق أخرى من العالم.
لكن ذلك لا يبدّد على الإطلاق مخاوف الأوروبيين الذين يعرفون روسيا ونواياها جيّداً، فهم لم ينسوا تصريح لافروف المثير للجدل، العام الماضي، الذي قال فيه إن "الغرب أصبح ميتاً". وهذه المرة، وبعد أن أعاد لافروف ما يكرّره الروس في سياسة الإنكار، في كل القضايا والتهم التي توجّه إليهم، ذكّر الأوروبيين بأزمتهم الداخلية مع تقدّم "اليمين المتطرّف والنازيين مرة أخرى في أوروبا"، بينما هاجم محاولتهم "إجبار أوكرانيا على الاختيار بين روسيا والاتحاد الأوروبي"، وذلك أثناء تعقيبه على دعوة زميله الألماني سيغمار غابرييل لتخفيف العقوبات على موسكو، بسبب ضم شبه جزيرة القرم.
وتعليقاً على تصريحات لافروف، قال مصدرٌ أوروبي متابع للشأن الأمني والخارجي في البرلمان الأوروبي، في حديث مع "العربي الجديد" من ميونخ، إنه "لعل التصريح الأكثر سخرية هو الذي أتى عليه رجل بوتين في مؤتمر ميونخ، فكلنا ندرك، يميناً ويساراً، أن روسيا آخر من يحق لها التحدّث عن تقدّم اليمين القومي المتطرف، فرجال الكرملين صفّقوا ودعموا تقدّم هذا اليمين وأقاموا معه أفضل العلاقات وفرشوا له السجاد الأحمر". وتساءل: "هل ننسى علاقتهم باليمين الألماني أو بمارين لوبان (رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني) أو القوميين في السويد وإيطاليا؟".
ورفع وزراء الدفاع في الدول الاسكندنافية صوتهم عالياً بوجه التحدي الأمني المتمثّل بالتدخّل الروسي على مستويات عدة، من المباشر إلى الإلكتروني، إضافة إلى التحالف مع قوى وأحزاب متشددة، في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، وذلك عقب توجيه تقارير رسمية قبل يومين من مؤتمر ميونخ أصابع الاتهام إلى "رجال الكرملين" بالتدخّل في الانتخابات التي جرت في أوروبا صيف 2017، ووصل فيها اليمين المتطرف إلى السلطة في أكثر من بلد.
بدوره، رأى برلماني دنماركي تحدّث مع "العربي الجديد" أنّ تهكّم لافروف "مدعاة للسخرية بحدّ ذاته، فهو يتحدّث عن أنّ روسيا لا تنتج أخباراً مزيّفة وأن بلده محب للسلام، وأن أوروبا هي من تصنع البروباغندا، في حين أن الواقع يعرفه الجميع والشواهد كثيرة، أقلها أوكرانيا وسورية واتهام المحقق مولر لثلاث عشرة شخصية باستخدام التزييف والتزوير للتأثير على الانتخابات الأميركية، في بروباغندا يمكن أن تشقّ المجتمعات".
ولذلك، فإن التحدي الروسي يأخذه الأوروبيون بكثير من الجدية. فحتى الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، أندرس فوغ راسموسن، يراه اليوم "متعدد الجبهات. فروسيا تتصرّف بعدوانية في كل مكان، وتحاول أن تضع نفوذها من خلال التحالف مع (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان في سورية، في حين أن التهديد العسكري الروسي يأتي أيضاً في وقت يحكم فيه رئيس أميركي (دونالد ترامب) يصعب التنبّؤ بتصرفاته ومواقفه. ولدينا إلى جانب التحدي الروسي تحديات في مسألة اللجوء وحرب سيبرانية وتراجع مسائل البيئة".
وبقيت عيون الأوروبيين، بحسب ما عكسته أيام المؤتمر، شاخصة إلى تأثير "الحرب الباردة بأسلحة جديدة"، التي يستخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "مع الكثير من زيادة التسلح".
واعتبر مدير مركز الأبحاث الأميركي "صندوق مارشال الألماني"، يان تيشناو، أن "روسيا تسارع في التسلّح وتشكّل تهديداً متزايداً، فقد شهدنا العام الماضي كيف أن موسكو تذهب نحو تشجيع الاضطرابات والأزمات السياسية في الديمقراطيات الأوروبية، وهو ما جرى في الانتخابات الأميركية، لكنهم (الأوروبيون) لم يقوموا بالكثير لجعل أنفسهم أقل عرضة لتصرفات الروس". وذهب تيشناو إلى تفصيل طرق روسيا في مواجهة الأوروبيين، معتبراً أنهم "يستخدمون وسائل عديدة، في الحرب الباردة الجديدة. فإلى جانب التهديد العسكري التقليدي، بما فيه الاستعراض النووي، تخوض موسكو حرب التضليل عبر الوسائل السيبرانية، إضافة إلى الضغط الاقتصادي ودعم المتطرفين في دول أوروبا. وعلى حكومات الأخيرة أن تدرك حجم هذه المخاطر والتهديدات بتعزيز وإصلاح الديمقراطية، وتعميق التعاون على ضفتي الأطلسي".
لا قرارات ختامية
في حين لا يعدّ مؤتمر الأمن في ميونخ مؤتمراً لاتخاذ قرارات ختامية، بل مؤتمر للبحث والتداول في الأزمات وربما التوافق على آليات للمواجهة، من دون إلزام للدول بذلك، يبدو أن تلخيص تقرير رئيس المؤتمر في نسخته الحالية، فولفانغ إيشنغر، يختزل كثيراً من تحديات ما قبل النسخة 54 منه وما بعدها.
فالرجل ذهب إلى اعتبار أن العالم "وصل العام الماضي إلى حافة صراع كبير"، معدّداً القضايا التي تواجه العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط، واستمرار التوترات بين روسيا والأطلسي في أوروبا، مع الصخب المتزايد مع كوريا الشمالية، والنزاع بين السعودية وإيران، مع كثير من تشاؤمه حول الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
إذاً، ما يخشاه الأوروبيون اليوم هو "التلاعب بالنظام العالمي لفترة ما بعد الحرب الباردة". وبالمعنى المباشر، يرى محللون أوروبيون كثر أن أوروبا "لم تكن مستعدة لكل هذه التطورات التي أزّمت واقعها خلال السنوات الماضية". وبالرغم من مناقشة ساسة أوروبيين مشاكلهم وأزماتهم، من الإرهاب إلى الاحتلال وغياب السلام والحروب على حافة حدودهم شرقاً وغرباً، إلّا أنّ ما يبحث عنه هؤلاء المراقبون والمحللون، سواء في ألمانيا، أو في بقية دول القارة، هو "استراتيجيات عمل" لمواجهة التحديات المتزامنة والمترابطة. ويبدو بالنسبة إلى هؤلاء أن "مؤتمر ميونخ" ليس أكثر من فرصة "يجب أن يعقبها جهد حقيقي في الأيام المقبلة، إن كانت أوروبا بالفعل ستواجه هذه التحديات المصيرية".
قضايا عالمية
وإذا كان إيشنغر قد تحدّث عن مخاطر، هي الكبرى منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، فضلاً عن تزايد نبرة التهديدات النووية، فإن القضايا الأخرى لم تغب عن المؤتمر، لأن الارتباط بفترة "الحرب الباردة التي نحن في وسطها وليس أمامها"، بحسب إيشنغر، تؤثر أيضاً على قضايا العالم الأخرى. وفي السياق، برزت في نقاشات المؤتمر الأدوار الجديدة التي من المحتمل أن تلعبها ألمانيا في أوروبا، وإمكانية تخفيف التوتر المتصاعد.
ويحتضن مؤتمر ميونخ للأمن، الذي أسسه الباحث الألماني إيوالد فون كلايست، عام 1963، سنوياً، قادة عالميين ومنظمات دولية ومراكز بحثية لمناقشة السياسة الأمنية والأزمات والنزاعات والحروب التي تهدّد العالم، وجهود الدول من أجل اتباع أفضل السبل لعدم التصادم، عبر الحوار والتوصّل إلى قواسم مشتركة. ولأن القارات كلها تقريباً تشارك في المؤتمر، فقد فرض "ميونخ" نفسه كإحدى أهم المنصات الدولية، ربما يتجاوز منتدى "دافوس" من حيث توسّع مروحة القضايا والنقاشات والهموم العالمية التي يناقشها والمقترحات والحلول التي يطرحها.