هنري علّاق: حقيقة الاستعمار بحبر فرنسي

06 أكتوبر 2018
(هنري علّاق في كولاج لـ مصطفى بوطاجين)
+ الخط -

بعد خمس سنوات على رحيله، يعود هنري علّاق (1921 - 2013)، الصحافي والحقوقي الفرنسي المناهض للاستعمار، إلى دائرة الضوء، بمناسبة مرور ستّين عاماً على صدور كتابه "المسألة"، والذي يُعدّ وثيقةً حيّةً عن التعذيب الممنهَج الذي مارسه الفرنسيّون خلال الثورة الجزائرية.

في هذا السياق، يُنظّم "المركز الثقافي الجزائري" في باريس، بالشراكة مع "جمعية فن وذاكرة المغرب العربي"، سلسلةً من الفعاليات الاستعادية التي تستمرّ حتّى العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وتتضمّن معارض وندوات نقاشية حول الكتاب.

تأتي استعادة الرجل بعد أيّامٍ من اعتراف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بمسؤولية بلاده عن اغتيال أستاذ الرياضيات والمناضل اليساري، موريس أودان (1932 – 1957)، الذي جمعته رابطة صداقة ونضال قوية مع علّاق.

وعلّاق، الذي حمل الجنسية الجزائرية بعد الاستقلال، كان قد حمل قضيّتَها قبل سنواتٍ من ذلك؛ حين تحدّى سلطات الاحتلال الفرنسي، وانخرط في الثورة الجزائرية انطلاقاً من كتاباته التي كشفت أساليب الاستعمار على صفحات صحيفة "آلجي ريببليكان" (الجزائر الجمهورية) المقرّبة من "الحزب الشيوعي الجزائري"، والتي كان يشغل رئيسَ تحريرها آنذاك.

ضاقت إدارة الاحتلال ذرعاً بكتابات علّاق، وبخطّ الصحيفة بشكل عام، فسارعت إلى منع صدورها في صيف 1955. لكن ذلك لم يضع حدّاً لنشاطه؛ إذ انتقل إلى العمل السريّ بدايةً من 1956. وفي الثاني عشر من تمّوز/ يونيو 1957، أي في خضمّ "معركة الجزائر"، اعتُقل بينما كان يُحاول الاتّصال بـ موريس أودان.

قبلها بأربع وعشرين ساعةً، اختطفت السلطات الاستعمارية أودان الذي ستقوم بإعدامه لاحقاً، وهي الجريمة التي ظلّت الدولة الفرنسية تُنكر مسؤوليتها عنها حتى أيلول/ سبتمبر الماضي، حين اعترف ماكرون، خلال زيارةٍ قام بها إلى منزل جوزيت أودان، أرملة أودان، بمسؤولية بلاده عمّا حدث.

تعرّض علّاق، الذي يُلقّبه بعضهم بـ "صديق الثورة الجزائرية" كغيره من الأوروبيّين الذين ساندوها أو انخرطوا فيها، إلى شتّى أنواع التعذيب النفسي والجسدي في أعالي مدينة الجزائر. في 1958، وهو في سجن "بربروس" (سركاجي حالياً) بالجزائر العاصمة، سيُؤلّف كتاباً يُضيء فيه على أساليب التعذيب التي مارسها الاحتلال الفرنسي ضدّ الثوّار والمتعاطفين معهم.

في "المسألة"، نقل مشاهداته عن تعذيب المساجين ورميهم من طابقٍ إلى آخر، قائلاً إنه ظلّ يسمع، طيلة ليالي شهرٍ كامل، صرخات رجالٍ يتعرّضون إلى التعذيب "بقيت راسخةً في ذاكرتي".

غير أنّ علّاق لم يروِ تلك الذكريات من موقع شاهد العيان فحسب، إذ كان واحداً من هؤلاء المساجين، وتعرّض إلى ما تعرّضوا إليه: "تجرّعتُ الكثير من الآلام والإهانات إلى درجة أنّني كنتُ لا أتجرّأ على استعادة ذكريات التعذيب. لم أكُن لأفعل لولا اعتقادي أنها تُسهم في كشف الحقيقة، وتساعد في التوصُّل إلى وقفٍ لإطلاق النار وبلوغ السلم المنشود".

وقطع العمل رحلةً طويلةً قبل أن يصل إلى القارئ؛ إذ دوّن علّاق شهادته بناءً على طلب محاميه لِيو ماتاراسو الذي أقنعه بأهميّة وصف ممارسات التعذيب التي يتعرّض لها الآلاف في المعتقلات الفرنسية، ثمّ تسلّم محاموه تلك الأوراق سرّاً، لترقنها جيلبيرت، زوجة محاميه بيار براون، على آلةٍ كاتبة.

وبعد صدوره، عمدت السلطاتُ الفرنسية إلى مصادرته من المكتبات ومنع تداوله. وقبل ذلك، كانت بعض دور النشر في فرنسا وغيرها قد رفضت نشره بسبب مضامينه، إلى أن وصلَ إلى جيروم ليندون (1925 – 2001)، صاحب "دار مينوي"، والذي سبق أن نشر كتاباً بعنوان "من أجل جميلة بوحيرد" لـ جاك فيرجاس وجورج أرنو عام 1957.

ورغم محاصرته، نجح الكتاب، الذي أُعيد نشره في سويسرا، في تنبيه الرأي العام الفرنسي إلى حقيقة ما يحدث في الجزائر المستعمَرة، بل إنه أثار صدمةً في الأوساط الثقافية والإعلامية الفرنسية، بعد أن كشف عن الوجه القبيح للاستعمار؛ حيثُ وجّهت مجموعةٌ من المثقّفين، من بينهم جون بول سارتر وأندريه مارلو وفرانسوا مورياك، رسالة احتجاج إلى حكومة بلادهم، مطالبين إيّاها بإدانة التعذيب الذي "لا يُشرّف المبادئ التي تزعم الدفاع عنها".

المساهمون