هنري دومونفراد.. البحر في المعتقل البرّي

10 يوليو 2016
(باريس: فلاماريون- آرتو، 2016)
+ الخط -
قبيل أن تنفتح أبواب الجحيم في أوروبا مؤذنة باندلاع الحرب العالمية الأولى 1914-1918 كانت الجنّة ترتسم أمام عيني الكاتب الفرنسي، هنري دومونفراد (1879-1914) في عمق القرن الأفريقي وعلى سواحل البحر الأحمر. هنالك، وبعيدا عن القارة العجوز بدا له كل شيء مباحا وعنوانا على حريّة قرّر أن يصوغ تفاصيلها بنفسه.

في مخطوطة تم العثور عليها مؤخرا، قام بتحقيقها والتعليق عليها حفيده غيوم دومونفراد، نكتشف صفحات أخرى مجهولة من سيرة مغامر عنيد فرّ من حروب القارة العجوز، فلاحقته إلى قلب القارة السمراء.

الماضي وراءه والبحر أمامه!
في مدينة لافرانكي الواقعة جنوب غربي فرنسا غير بعيد عن الحدود الإسبانية، فتح الفتى هنري دومونفراد عينيه منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 1879 ليجد نفسه قبالة البحر الأبيض المتوسط محاطا بالخلجان والبرك. وفي محيط تكتنفه الزرقة والمياه، أخذ عن أبيه عشق المغامرات البحرية والولع بالرسم وجمع الأعمال التشكيلية. أمّا عشق البحر، فقد تكرّس لديه منذ سنّ الخامسة في أعقاب رحلة قام بها على ظهر مركب شراعي من جنوبي فرنسا إلى الجزائر العاصمة 1884، حيث اكتشف للمرّة الأولى عالم العرب والمسلمين؛ وأمّا الولع بالرسم فقد تجذّر فيه عقب انتقال أسرته إلى باريس وهو في سنّ السابعة 1886حيث كان منزل العائلة ملتقى لكبار الرسّامين أمثال بول غوغان 1848-1903 وهنري ماتيس 1869-1954. ولكن انفصال والديه بالطلاق أربك مسار دراساته في الهندسة الميكانيكية، ودفعه إلى العمل كبائع متجوّل.

في الثلاثين من عمره، صارت فرنسا في عيني هنري دومونفراد سجناً كبيراً وعنوان خيبة وإخفاق، ولم يكن أمامه سوى إعلان القطيعة معها ومع ذاته وماضيه القريب، فامتطى أوّل سفينة متّجهة إلى القرن الأفريقيّ 1911 ليبدأ مع البحر موجة جديدة ويكتب باللون الأزرق صفحات دُوّنت بعضُ أسطرها باللغة العربية ووُشّيت بزخارف الإسلام.

روح المغامرة وطعم المفارقة
كانت منطقة القرن الأفريقي في مطلع القرن العشرين "سرّة العالم" وحديقته الخلفية، خاصّة بعد إنشاء قناة السويس 1869 التي أتاحت الوصل بين البحار النائية. ورغم بعد المنطقة عن كبرى العمليات الميدانية التي جرت في أثناء الحرب العالمية الأولى، فإنّ أهميتها لم تكن خافية عن أعين القوى الكبرى، ولا عن أرجل المغامرين أصحاب البشرة البيضاء الباحثين عن أفق جديد ينسيهم شقاءهم في القارة العجوز.

لم يكن هنري دومونفراد رائدا من رواد الرحلة إلى "سرّة العالم"، ولا السبّاق إليها، فقد زارها قبله وأقام فيها مثله كثيرون، لعل من أشهرهم على الإطلاق، الشاعر الفرنسي آرتير رامبو 1854-1891. وما كان للقرن الأفريقي أن يمارس سحره وغوايته على المغامرين والكتاب والشعراء وشذاذ الآفاق لولا الثروات، التي يزخر بها والغنائم التي ينطوي عليها.

في بداية سنوات إقامته انشغل هنري دومونفراد بتجارة القهوة والجلود حتّى عاوده الحنين إلى البحر، فاشترى مركبا شراعيا لم يكن بالنسبة إليه مجرّد أداة يطوّر بها تجارته النافقة، أو يستكشف بواسطتها سواحل البحر الأحمر، بل كان طريقا قاده إلى التعرّف على الحضارة التي وجد نفسه في كنفها.

كان اسم المركب "فتح الرحمان" وقد كان في نظر مالكه الجديد فتحا حقا، ولكن من نوع خاص. فقد أتاح لدومونفراد أن يعيش روح المغامرة بمنتهى الحريّة ومطلق الانعتاق ماديّا وروحيّا. وبدل الاقتصار على البن والجلود انخرط في تجارة اللؤلؤ والحشيش والمورفين ضمن شبكات امتدت بين اليمن والحبشة ومصر، غير عابئ بالسجن الذي جرّبه أكثر من مرّة. ومثلما قادته روح المغامرة في جانبها المادي إلى الاتجار في الممنوعات، قادته في بعدها الروحي إلى اعتناق الإسلام وإلى الاختتان والتسمّي باسم "عبد الحي" تشبّها بنوتيّة المراكب التي صارت في ملكه.

اكتشاف الكتابة
في خضم حياته المليئة بالمغامرات والمفارقات، لم ينقطع هنري دومونفراد عن الكتابة. وإلى حدود سنوات الثلاثين لم يخرج جلّ ما دوّنه عن الأشكال البسيطة العفويّة كاليوميّات والمذكّرات والخواطر والانطباعات التي ظنّ أنّها غير جديرة بالنشر. ولكنّ لقاءه بالمغامر والصحافي والروائي الفرنسي، جوزيف كاسيل، 1898-1979 سيغيّر مجرى حياته ويجعل منه نجما من نجوم التأليف في فرنسا. فبعد اطّلاع كاسيل على المادّة التي كان دومونفراد يحتفظ بها، شجّعه على إعادة صياغتها وفتح له أبواب دور النشر التي وجدت في مؤلفاته لآلئ فريدة تحرّك مخيال الفرنسيين وتزيد من الغرائبيّة، التي طبعت نظرتهم إلى الشرق. وعلى امتداد عقود ظلّ دومونفراد يمدّ المطابع بعشرات المصنّفات في مجال السيرة الذاتية وروايات المغامرات والتحقيقات الصحافية والمراسلات الشخصية والأغاني وصولا إلى الأشرطة التلفزيونية واللقاءات الإذاعيّة.

كانت حياة هنري دومونفراد بحرا لا ينقطع تياره؛ وما المخطوط الذي نشر له أخيرا تحت عنوان "مُـرحّـلٌ من طرف الإنكليز- أفريقيا 1942" إلاّ موجة من موجات هذا البحر يروي فيها ظروف اعتقاله في الحبشة على أيدي قوات التاج البريطاني، التي قامت بنقله إلى معتقلاتها في كينيا تحت رقم 79137 بتهمة التخابر مع العدوّ. تهمة لم يستوعب فحواها ولم يتبين مغزاها، وهو الذي أسس حياته على الحريّة والانعتاق فوجد نفسه ينظر من وراء القضبان إلى غابات أفريقيا، بعيدا عن البحر الذي كان جوهر كينونته.

(كاتب تونسي)

المساهمون