هل ينهار نظام المحاصصة الطائفية في لبنان؟
لم يكن الانفجار المهول الذي هزّ مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/ آب الجاري، مجرّد حادث من التي اعتاد عليها اللبنانيون في العقود الخمسة المنصرمة، بقدر ما كان زلزالا اجتماعيا ونفسيا وسياسيا أصاب الكيانية اللبنانية في مقتل، وفرض عليها حزمة تحدّياتٍ سيكون عليها رفعها في قادم الأيام. وإضافة إلى ما يمثله مرفأ بيروت من أهميةٍ في الذاكرة التاريخية والثقافية والشعبية اللبنانية، كشف الحادث عن التصدّعات العميقة الكامنة في مختلف مفاصل الدولة ومؤسساتها.
أسقط انفجار مرفأ بيروت المشروعية السياسية والأخلاقية عن النخب اللبنانية، ووضع النظام الاجتماعي والسياسي أمام تحدٍّ غير مسبوق، بعد أن كشف هشاشته وارتهانه للطائفية السياسية التي تغذّيها تحالفات الزعامات السنية والشيعية والدرزية والمسيحية مع القوى الإقليمية التي ترى في استمرار الوضع اللبناني على ما هو عليه حمايةً لمصالحها المختلفة. وقد لا يكون من المبالغة القول إن نظام المحاصصة الطائفية الذي أرسي سنة 1943 قد استنفد كل موارده التي ظل يحتكم إليها، ولم يعد له ما يقدّمه للبنانيين غير الخراب والفوضى وعدم الاستقرار. أكثر من ذلك، هناك شعور عام في لبنان بأن هذا النظام بات مكلفا جدا، والاستمرار في إعادة إنتاجه جريمة بحق الشعب اللبناني، المتطلع إلى تغيير حقيقي.
أخفق أمراء الطوائف في اختبار الاندماج الوطني، بسبب ارتهانهم لأجنداتٍ خارجيةٍ، حولت لبنان ساحةً للحروب بالوكالة، وتصفيةِ الحسابات الإقليمية والدولية، وعجزوا عن بناء هوية وطنية جامعة، تستوعب الهويات المذهبية والطائفية التي أنهكت لبنان، واستنزفت رصيده الثقافي والحضاري. وعلى الرغم مما ألحقته الحرب الأهلية (1975 - 1990) من دمار في لبنان على غير صعيد، إلا أن هؤلاء لم يستوعبوا الدرس، وظلوا، خلال العقود الثلاثة الماضية، يعيدون إنتاج تناقضات الوضع اللبناني، ويستخلصون عوائده مصالحَ ومغانمَ طائفيةً وتحالفاتٍ خارجيةً يستقوون بها في مواجهة بعضهم بعضا، من دون أن ينشغلوا، ولو لحظة، ببناء مشروع مجتمعي ووطني مستقل، يعيد إلى لبنان حيويته الثقافية.
أماطت فاجعة مرفأ بيروت اللثام عن الحصاد المأساوي الذي آل إليه نظام المحاصصة الطائفية. ولعل ذلك ما يفسّر حالة الغضب العارم الذي اجتاح الشارع، بما يعنيه ذلك من تجديد شرعية الحراك الشعبي الذي يبدو أنه صار رقما أساسيا في المعادلة اللبنانية، سيما بعد تقديم حكومة حسّان دياب استقالتها، واعترافها بتجذّر الفساد داخل الدولة، والتخبطِ البادي على مختلف مكونات الطبقة السياسية التي تجد نفسها، اليوم، عاجزةً عن تدبير تبعات هذه الفاجعة، بما يخفف عن اللبنانيين مُصابهم، ويعيد إليهم الثقة في مؤسسات الدولة.
لا يقتصر تأثير انفجار مرفأ بيروت على القوى الداخلية، بل يتخطّاها نحو القوى الإقليمية، وتحديدا إيران والسعودية، باعتبارهما القوتين الأكثر نفوذا على الساحة اللبنانية، حيث أربك الحادث حساباتهما اللبنانية التي تتغذّى، بالأساس، على انقسام القوى الداخلية وتشرذمها. ويصعب التكهن بمستقبل تأثيرهما في ظل الارتجاج الذي أحدثه الانفجار داخل المجتمع اللبناني. وإذا ما قُيض للحراك الشعبي أن ينتقل إلى طورٍ جديدٍ على درب بلورة خريطة طريق للخروج من الأزمة، فذلك قد يلقي ظلالا قاتمة على مستقبل نفوذ هاتين الدولتين في لبنان، واللتين لن تقبلا بسهولة تفكيك البنية الطائفية للنظام السياسي اللبناني.
وإذا كان من السابق لأوانه الحديث عن تغيير عميق في بنية هذا النظام، بحكم تجذّر الطائفية السياسية داخل مؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء، إلا أن إصرار هذا الحراك على استعادة المبادرة، بعد الخفوت النسبي الذي فرضته جائحة كورونا، قد يسحب البساط من تحت أقدام الطبقة السياسية المصرّة، على ما يبدو، على تدوير هذا النظام وإعادة إنتاجه، ويؤكد حاجة لبنان إلى نظام سياسي جديد، يستوعب توتراته المذهبية والطائفية، ويحتكم إلى مبادئ المواطنة والمساواة.
وفي الختام، كشف الحادث المروّع حجم الفساد المتوطّن في مختلف مؤسسات الدولة؛ فساد يدلُّ عليه تردّي الوضع المعيشي والاجتماعي لفئات واسعة من اللبنانيين الذين يرون أن الوضع قد حان لتغيير جذري، يحقق تطلعاتهم المشروعة نحو عقد اجتماعي جديد.