هل يفسد الخلاف للودّ قضية؟

22 نوفمبر 2014
+ الخط -

في بدايات انطلاق الربيع العربي، وشعاره الذي كان له وقع غريب على النفوس، مهما اختلفت مشارب المنادين به (الشعب يريد إسقاط النظام)، فقد كان مقطّعا من أربع كلمات ليس فيه سجع، ولا وزن ولا قافية، على غير طبيعة العرب في هتافاتهم، ضمّني مجلس مع صاحب لي، في مقهى أدبي خافت الأصوات، يتيح لمرتاديه الحديث في عوالم شتى، من دون أن يكون تأثير لمجموعة على أخرى، بل لا يكاد يؤثر الخلاف، مهما احتدّ بين المتناظرين على الجالسين، أو الواقفين، ومن باب أولى، فإنه لا يؤثر، بالمرة، على المارة السابلين.
في هذه الجلسة التي أحسبها بداية للتفكير الحقيقي عن فحوى التغيير والسباحة الحرة في ميادين تغيير المزاج العربي، سألني صاحبي الذي يحبني وأحبه، ويحترم رأيي، كما أحترم رأيه مع اختلافنا في وجهات النظر، قال، وهو يضع كوب الشاي، وقد أخذته نشوة ما يذاع في التلفاز عن ثورات الربيع العربي، انظر، يا أخي، ها قد تحررت الشعوب، فهل لا تزال أسيراً لرؤاك الرتيبة في تغيّر المزاج الشعبي؟ نظرت إليه، وهو يحاول أن يستفزني بنظرات مستعارة من لؤم أصحاب التيارات المتناقضة، وهم ينتشون، في حال سيطرتهم، بالنقاش على طرف مخالف، حاولت أن أستجمع قواي، لكي يكون الرد علمياً، حتى لا يفسد للمقهى الذي أحبه جلسةً، أحرص على إدامتها وديمومتها، في زمن بات فيه ايجاد الرأي المخالف بصيغته المؤدبة المنضبطة أمراً صعباً، وسط مناكفات على شاشات الفضائيات، تشبه، إلى حد ما، المصارعة الحرة غير المقيّدة التي سلبت لبّ العرب في سبعينات القرن الماضي، فظنوا أنها حقيقة، ولم يعلموا إلا متأخراً أنها عرض فني لفنون القتال، لا يكلّف الطرفين دماً، ولا روحاً، لكن مصارعات الفضائيات تنعكس على الشارع المتابع لها بروحية الشحن الطائفي الأعمى.
بعد هذا السرحان القريب من صاحبي، التفتُّ إليه، وقلت له لا يخدعنّك التيار، فالعبرة بعد انحسار المد، والخطوة الأولى الواثقة والثابتة، ولا ينبغي لعاقل أن يستعجل. وقابلتُ أسئلته بأسئلة مثلها، وهي حركة مني لرمي الكرة في ملعبه، فإن أجابها سأقتنص من إجاباته نقاط ضعفه، وإن امتنع عن الإجابة، ولاذ بالمراوغة، سأعيد ترتيب السؤال، بشكل منطقي، يكون مع إجابته في صالحي، وصالح فكرتي، فقلت له أرجو أن تجد لي لكل سؤال إجابة، ولو بكلمتين، لماذا لم ينتفض الشعب لإسقاط النظام، إلا في مناطق بعينها؟ ولماذا لم تكن الدوافع الأوفر حظاً في إشعال الثورة دافعاً لإشعالها في بلدانٍ تئن تحت وطأة الاستبداد والحكم الشمولي والحزب الأوحد؟
هل ثورات الربيع العربي تنتقي بلدانها، أم أن بلدانها تتهيّأ لها قبل ذلك؟ وهل الخطوة القادمة ستفضي لفصيلٍ بعينه، أم أنها حكومة توافقات بين فرقاء متشاكسين، كما لدينا في العراق؟ ولمّا لم يجد كلانا جواباً لأسئلة الطرف الثاني، ليس لعجزنا، ولكننا اتخذنا درعاً فكرياً لا يسمح لنفاذ فكرة الطرف الآخر إليه، لا سيما أن موضوع النقاش جديد لم تتكشّف عيوبه بعد، ولذلك توافقنا أنا وهو واكتفينا بإطلاق شعارات ولافتات كلّ منّا يعتني في صياغتها، فأنا أقول شعار إسقاط النظام اعتراف بأنه نظام وما عداه الفوضى الخلاّقة المُوصى بها، ويرد هو بأن مزاج الشعوب بات يتغيّر في ثلاثة أيام من التظاهرات، فأرد عليه أن المزاج الشعبي يحتاج ثلاثة عقود لكي يتغيّر، وينادي هو بأن الشعوب استبانت طريقها، فأرد بقولي ربما سبقت الشعوب قياداتها، ولكن المشكلة أن القيادات لا تستطيع الركض في الطرقات العربية. وبقينا على هذا الحال من السجال، حتى داهمنا انقضاء الوقت المخصص لتلك الجلسة التي لم يفسد الخلاف فيها ودّنا، فتنازعنا على مَن يدفع الحساب لصاحب المقهى.
مضت الأيام، وكتبت عن درس تونس وقبس من نور مصر، وأحقية الثورة السورية في الانتشار للتخلّص من حكم بشار، ولم أكتب عن ليبيا، أما لماذا فلا جواب لديّ، أو هكذا كنت أقدم الأعذار، وكان صاحبي كلما قرأ ما كتبت، يناكفني بما أرتب من جمل، لا لشيء سوى أنني وهو من الحريصين على البقاء في قيد المهتمين بأمر المسلمين، فلربما محوت جملاً وأفكاراً ممّا كتبت، لأن الإعلان عنها يحتاج إلى وقت كبير غير متاح لتوضيح الفكرة بأننا لسنا ضد الشعوب ولسنا مع المستبدين.
وتبقى الحياة مستمرة ما دامت تضم في جنباتها الأسباب والمسببات معاً، تضم الرأي والرأي الآخر، تضم متناقضات بين تفاؤل وتشاؤم، وبقيت علاقتي بصاحبي تزداد صلابة ومتانة للدلالة على أن الرأي المستند إلى وقائع وإيمان بطريقة معينة في الحياة، لا يفسد الود ما دام في حيّز الحوار المتحضّر الديمقراطي.

avata
avata
حارث الأزديا (العراق)
حارث الأزديا (العراق)