05 نوفمبر 2024
هل يعطل استفتاء كردستان العراق "سايكس بيكو" الجديدة؟
غيَّرت الأمم المتحدة من عاداتها، أي عادات اكتسبتها منذ تأسيسها، وأعلنت رفضها قرار إجراء استفتاء للاستقلال، في كردستان العراق. ويبدو الموقف بالغ الأهمية، بقدر ما هو غير مألوف، حتى لا نقول غير مسبوق، فقد تعلمنا من كل حوليات السياسة الدولية أن الأمم المتحدة انبنت على أنقاض عصبة الأمم، وعلى أساس تعزيز مبدأ تقرير المصير والاستقلالات الوطنية منذ العام 1946.
ولم يسبق أن عارضت، بمثل القوة والإجماع الحاليين، استفتاء ما، بقدر ما كانت دائما تضعه أول الحلول، عندما يختلّ التوازن لفائدة أطروحات انفصالية أو استقلالية، حتى ولو كانت مجرد نزعات هوياتية منكمشة على ذاتها، فالحالة الوحيدة، بعد الحرب الباردة، تجسدت في جزيرة القرم مع روسيا فلاديمير بوتين، ففي مارس/ آذار 4102، صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار متميز، تجلى في رفضها إجراء استفتاء في هذه الجزيرة، استقلالا عن أوكرانيا، للارتباط بروسيا القيصر الجديد. وتأسس مبدأ الرفض على أن الاستفتاء لم توافق عليه البلاد الأصلية (أوكرانيا)، وعليه، هو يفتقد لأية مصداقية، ولن يكون له أثر على تغيير وضع الجمهورية. ودعت الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات الخاصة إلى عدم الاعتراف بها، أو القيام بأية معاملات قد تفهم على أساس أنه اعتراف بالكيان الجديد.
من المفارقات أن العراق، عندما ضم الكويت في العام 0991، ورفض المجتمع الدولي تهوره اللاتاريخي، قامت الحرب عليه، أما روسيا عندما ضمت القرم، ورفضت الأمم المتحدة إجراءها هذا، لم تقم الحرب عليها، وتلك مقدمة ولا شك لفهم التحولات الكبرى الحالية والمقبلة. ويكون مفيدا دوما أن نبحث في مفارقات الكيان الأممي: ومن ذلك طرح السؤال: كيف يضع على لائحته الخاصة بالاستقلال الأقاليم أو المناطق التي يصنفها مطالبةً بالاستقلال، في الوقت الذي ترفض فيه هي (الأقاليم والمناطق) ما تريده الأمم المتحدة! فلقد وضعت الأمم المتحدة لائحة الدول التي تريدها أن تجرّب وجودها عبر الاستقلال بتقرير المصير في سنة 6491. وعلى الرغم من كل الحروب الباردة والحارة، ما زالت اللائحة الأممية محافظة على "سكانها" الانفصاليين.
وبمراجعة بسيطة للمواقع المهتمة، نجد أنها تضم منطقة طوكلو في نيوزيلاندا، على الرغم من أن هذه الجزيرة رفضت الاستقلال عبر الاستفتاء مرتينَ! كتب الصحافي النيوزيلاندي، مايكل فييلد، ساخرا في سنة 4002، تريد الأمم تخليص العالم من آخر بقايا الاستعمار، وهي تملك لذلك لائحة من 61 منطقة في العالم، تكاد كلها ترفض استقلالها، وهو ما يفهم منه أن نيوزيلاندا تريد من الأمم المتحدة أن تكف عن "دفع طوكلو إلى الاستقلال". ولا تقف المفارقة عند المنطقة النيوزيلاندية المذكورة، بل تضم أيضا جزر المالوين (السكان صوتوا بأزيد من 98٪ بالبقاء ضمن النفوذ البريطاني ما وراء البحار) وبولينيزيا الفرنسية، والتي سبق سحب اسمها في 4791، ثم عادت مجددا، ما أثار غضب باريس بشكل مستفز.
والسؤال هو: ما الذي حدث أو لم يحدث، حتى تغيرت الأمم المتحدة من الإصرار على تقرير المصير والتشجيع على الاستقلالات إلى رفضها وتغيير طبيعة مقارباتها؟ لقد بنى مجلس الأمن الدولي، وهو الآمر بتصريف المواقف الأممية، وبدونه لا يمكن الحديث عن قراراتٍ جدية، معارضته الاستفتاء على الإستقلال في إقليم كردستان العراق على ثلاثة مستويات كبرى: اعتبار أن من شأن الخطوة زعزعة الاستقرار، والمس بـ"سيادة العراق ووحدته وسلامة أراضيه"، لا سيما وأن قرار الاستفتاء حول الاستقلال خطوة أحادية الجانب، أي من الحكومة الكردية في الإقليم وحدها. الاستفتاء "مقرر في وقت لا تزال فيه العمليات ضد تنظيم داعش جارية، والتي تؤدي القوات الكردية فيها دورا رئيسيا". إجراء الاستفتاء يهدّد بـ "إعاقة الجهود الرامية لضمان عودة طوعية وآمنة لأكثر من ثلاثة ملايين نازح ولاجئ" إلى ديارهم.
وفي المقابل، قدم مجلس الأمن، ومن ورائه الأمم المتحدة مقابلا دوليا للمعضلة الكردية، ضمن النظام السياسي العراقي، وضمن وحدته الترابية.. وذلك عبر الدعوة إلى "حلول توافقية يدعمها المجتمع الدولي"، وبالتالي تدويل الحل عوض تدويل المشكلة، كما كان الأمر بكل ما يتعلق بالعراق سابقا. وبذلك هناك نوع من التفسير في القضية مرتبط باللعبة الكبرى المجدّدة في المنطقة. فليس العراق وحده معنيا بالقضية الكردية، والخوف واضح لدى الدول من لعبة الدومينو في المنطقة، والتي قد تنسف أربع دول على الأقل في المنطقة: تركيا، إيران، العراق وسورية.
ولا شك أن ذلك سيشكل إعادة بناء خارطة جديدة للشرق الأوسط، تعود فيها الإثنية أساس بناء الدول، وهو ما قد يذكّرنا بـ"سايكس بيكو" جديدة، غير أن الذي يمكن أن نحتفظ به من تاريخية
التقسيم ومنطق "سايكس بيكو" هو أن التوزيع الترابي الذي جاءت به كان باتفاق دولي، وبناء على موازين القوة في وقتها. وتقول أوراق التاريخ إن "اتفاقية سايكس بيكو عام 6191 كانت اتفاقا وتفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة، بمصادقة من الإمبراطورية الروسية، على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا، بعد تهاوي الدولة العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى".
اليوم لا تملك بريطانيا النفوذ نفسه، وربما فوضه التاريخ لأميركا، ولا لفرنسا النفوذ نفسه. وفي المقابل، هناك ثلاث دول على الأقل لا يمكن القفز عليها في أي توافق دولي: الإمبراطورية العثمانية في شخص تركيا الحديثة لم تعد رجلا مريضا يمكن تفتيته بدون كارثة على المنطقة. وإيران ليست الدولة غير المبالية التي لم تشملها "سايكس بيكو" وقتها، وتركت كخزان جيو-استراتيجي للغرب، ليفعل به ما يشاء في توازنات المنطقة. وسورية تحت انتداب روسي واضح، صارت ميدانَ صراعٍ يحصل فيه اتفاق على الاقل، على مستويين من مستويات تبريرات المجلس الأممي لقرار الرفض: هما محاربة التطرف وعودة المهاجرين إذا ما حصل تفكّك الدول…المعنية!
هل يكشف الرفض الأممي لاستقلال كردستان العراق أن الوقت لم يحن بعد لإعادة تدبير الجغرافية الشرق أوسطية بما يخدم السياسة الجديدة؟ السؤال امتحان تاريخي، قد يكون جوابه إيرانيَا تركيًا روسيًا، لكن ليس في العرب من يستطيع أن يرفع تحديه إلى حد الساعة!
ولم يسبق أن عارضت، بمثل القوة والإجماع الحاليين، استفتاء ما، بقدر ما كانت دائما تضعه أول الحلول، عندما يختلّ التوازن لفائدة أطروحات انفصالية أو استقلالية، حتى ولو كانت مجرد نزعات هوياتية منكمشة على ذاتها، فالحالة الوحيدة، بعد الحرب الباردة، تجسدت في جزيرة القرم مع روسيا فلاديمير بوتين، ففي مارس/ آذار 4102، صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار متميز، تجلى في رفضها إجراء استفتاء في هذه الجزيرة، استقلالا عن أوكرانيا، للارتباط بروسيا القيصر الجديد. وتأسس مبدأ الرفض على أن الاستفتاء لم توافق عليه البلاد الأصلية (أوكرانيا)، وعليه، هو يفتقد لأية مصداقية، ولن يكون له أثر على تغيير وضع الجمهورية. ودعت الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات الخاصة إلى عدم الاعتراف بها، أو القيام بأية معاملات قد تفهم على أساس أنه اعتراف بالكيان الجديد.
من المفارقات أن العراق، عندما ضم الكويت في العام 0991، ورفض المجتمع الدولي تهوره اللاتاريخي، قامت الحرب عليه، أما روسيا عندما ضمت القرم، ورفضت الأمم المتحدة إجراءها هذا، لم تقم الحرب عليها، وتلك مقدمة ولا شك لفهم التحولات الكبرى الحالية والمقبلة. ويكون مفيدا دوما أن نبحث في مفارقات الكيان الأممي: ومن ذلك طرح السؤال: كيف يضع على لائحته الخاصة بالاستقلال الأقاليم أو المناطق التي يصنفها مطالبةً بالاستقلال، في الوقت الذي ترفض فيه هي (الأقاليم والمناطق) ما تريده الأمم المتحدة! فلقد وضعت الأمم المتحدة لائحة الدول التي تريدها أن تجرّب وجودها عبر الاستقلال بتقرير المصير في سنة 6491. وعلى الرغم من كل الحروب الباردة والحارة، ما زالت اللائحة الأممية محافظة على "سكانها" الانفصاليين.
وبمراجعة بسيطة للمواقع المهتمة، نجد أنها تضم منطقة طوكلو في نيوزيلاندا، على الرغم من أن هذه الجزيرة رفضت الاستقلال عبر الاستفتاء مرتينَ! كتب الصحافي النيوزيلاندي، مايكل فييلد، ساخرا في سنة 4002، تريد الأمم تخليص العالم من آخر بقايا الاستعمار، وهي تملك لذلك لائحة من 61 منطقة في العالم، تكاد كلها ترفض استقلالها، وهو ما يفهم منه أن نيوزيلاندا تريد من الأمم المتحدة أن تكف عن "دفع طوكلو إلى الاستقلال". ولا تقف المفارقة عند المنطقة النيوزيلاندية المذكورة، بل تضم أيضا جزر المالوين (السكان صوتوا بأزيد من 98٪ بالبقاء ضمن النفوذ البريطاني ما وراء البحار) وبولينيزيا الفرنسية، والتي سبق سحب اسمها في 4791، ثم عادت مجددا، ما أثار غضب باريس بشكل مستفز.
والسؤال هو: ما الذي حدث أو لم يحدث، حتى تغيرت الأمم المتحدة من الإصرار على تقرير المصير والتشجيع على الاستقلالات إلى رفضها وتغيير طبيعة مقارباتها؟ لقد بنى مجلس الأمن الدولي، وهو الآمر بتصريف المواقف الأممية، وبدونه لا يمكن الحديث عن قراراتٍ جدية، معارضته الاستفتاء على الإستقلال في إقليم كردستان العراق على ثلاثة مستويات كبرى: اعتبار أن من شأن الخطوة زعزعة الاستقرار، والمس بـ"سيادة العراق ووحدته وسلامة أراضيه"، لا سيما وأن قرار الاستفتاء حول الاستقلال خطوة أحادية الجانب، أي من الحكومة الكردية في الإقليم وحدها. الاستفتاء "مقرر في وقت لا تزال فيه العمليات ضد تنظيم داعش جارية، والتي تؤدي القوات الكردية فيها دورا رئيسيا". إجراء الاستفتاء يهدّد بـ "إعاقة الجهود الرامية لضمان عودة طوعية وآمنة لأكثر من ثلاثة ملايين نازح ولاجئ" إلى ديارهم.
وفي المقابل، قدم مجلس الأمن، ومن ورائه الأمم المتحدة مقابلا دوليا للمعضلة الكردية، ضمن النظام السياسي العراقي، وضمن وحدته الترابية.. وذلك عبر الدعوة إلى "حلول توافقية يدعمها المجتمع الدولي"، وبالتالي تدويل الحل عوض تدويل المشكلة، كما كان الأمر بكل ما يتعلق بالعراق سابقا. وبذلك هناك نوع من التفسير في القضية مرتبط باللعبة الكبرى المجدّدة في المنطقة. فليس العراق وحده معنيا بالقضية الكردية، والخوف واضح لدى الدول من لعبة الدومينو في المنطقة، والتي قد تنسف أربع دول على الأقل في المنطقة: تركيا، إيران، العراق وسورية.
ولا شك أن ذلك سيشكل إعادة بناء خارطة جديدة للشرق الأوسط، تعود فيها الإثنية أساس بناء الدول، وهو ما قد يذكّرنا بـ"سايكس بيكو" جديدة، غير أن الذي يمكن أن نحتفظ به من تاريخية
اليوم لا تملك بريطانيا النفوذ نفسه، وربما فوضه التاريخ لأميركا، ولا لفرنسا النفوذ نفسه. وفي المقابل، هناك ثلاث دول على الأقل لا يمكن القفز عليها في أي توافق دولي: الإمبراطورية العثمانية في شخص تركيا الحديثة لم تعد رجلا مريضا يمكن تفتيته بدون كارثة على المنطقة. وإيران ليست الدولة غير المبالية التي لم تشملها "سايكس بيكو" وقتها، وتركت كخزان جيو-استراتيجي للغرب، ليفعل به ما يشاء في توازنات المنطقة. وسورية تحت انتداب روسي واضح، صارت ميدانَ صراعٍ يحصل فيه اتفاق على الاقل، على مستويين من مستويات تبريرات المجلس الأممي لقرار الرفض: هما محاربة التطرف وعودة المهاجرين إذا ما حصل تفكّك الدول…المعنية!
هل يكشف الرفض الأممي لاستقلال كردستان العراق أن الوقت لم يحن بعد لإعادة تدبير الجغرافية الشرق أوسطية بما يخدم السياسة الجديدة؟ السؤال امتحان تاريخي، قد يكون جوابه إيرانيَا تركيًا روسيًا، لكن ليس في العرب من يستطيع أن يرفع تحديه إلى حد الساعة!